رغبت أن يكون هذا الحديث استراحة، عن قضايا السياسة، التي درجت على تناولها، وتأخذ في العادة حيزا كبيرا من اهتماماتي. وطرقت بابا آخر، حسبته أقل جهدا وعناء، هو مستقبل القراءة لدى الشعوب العربية. فإذا بالحقائق والأرقام والتقارير الصادرة عن مؤسسات أممية، حول هذا الموضوع، تصدم أكثر المتشائمين واليائسين في مستقبل الأمة، وقدرتها على التقدم والنهوض.

كيف يمكن أن يكون العرب في الخلف من جميع الأمم حين يتعلق الأمر بالقراءة ودينهم وقرآنهم يعلمهم أنه في البدء كانت الكلمة... وكتب التاريخ والتفسير تشرح لنا أن أول وحي نزل على الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وسلم هي سورة اقرأ. ولم تكن صدفة الدعوة إلى طلب العلم ولو كان في الصين. ومع ذلك كله فإننا أمة لا تقرأ. والتقارير الأممية التي تتحدث عن ذلك تثير فينا القشعريرة والرعب. وتكشف لنا أسباب تخلفنا وعدم قدرتنا على اللحاق بشعوب الأرض، عندما يتعلق الأمر بالنهضة والتقدم وبناء هياكل الدولة المدنية الحديثة بكل تشعباتها وتجلياتها.

لم يبتعد رواد النهضة الأوروبية كثيرا عن تشخيص الواقع، حين رددوا مع الشاعر البريطاني جون ميلتون، في فردوسه المفقود، أن من يقتل الكتاب يقتل الكلمة، ومن يقتل الكلمة يقتل الإنسان. ولم يجانب موشي ديان، وزير الحرب الإسرائيلي في حرب الستة أيام في يونيو عام 1967م، الصواب حين قال لقد هزمنا العرب، واحتل جيشنا أجزاء كبيرة من مصر وسوريا والأردن، لأن شعوبها لا تقرأ.

كيف نخوض معاركنا في الداخل والخارج، إن لم نتعلم قوانين التاريخ ومفرداته، ونقرأ عن تجارب الآخرين الذين سبقونا في مضمار النهوض والتنمية والتقدم، والتماهي مع روح العصر؟ وكيف لأمتنا أن تنتج فلاسفة ومفكرين وشعراء وروائيين ومبدعين عظاما، حين تنأى شعوبنا عن الكتاب، وتكون فريسة لثقافات الاستهلاك، ولأفكار وثقافات ونظريات فسدت بفعل تقادم الزمن عليها. وكيف لأخلاقنا أن تستقيم وتتعزز، ولشخصيتنا أن تصقل، فتتهذب نفوسنا، ونرتقي إلى عالم فوار متحرك نكون جديرين بالانتساب له. وكيف للمجتمع أن يتطور من غير مثقفين يعكفون على قراءة الكتاب، والتزود من معين العلم؟

وللأسف الشديد فإن منظمة اليونيسكو وتقارير التنمية البشرية التابعة للأمم المتحدة، توضح أن الوقت الذي يستهلكه الطفل العربي في القراءة، لا يتجاوز ست دقائق في العام. والإشارة هنا إلى القراءة الحرة دون احتساب أوقات القراءة المدرسية المنهجية. بمعنى أن الأطفال لا يقرؤون حتى كاتالوجات ألعابهم ومقتنياتهم الإلكترونية.

أما ما يخصصه الفرد العربي العادي للقراءة، فلا يتجاوز العشر دقائق سنويا، وهو أمر مثير للدهشة والحزن، حين نعلم أن الإنسان الغربي يستهلك في القراءة الحرة، ستا وثلاثين ساعة في السنة، بما يقارب 200 ضعف من استهلاك المواطن العربي. وتصدر مراكز النشر العربية، كتابا واحد لكل 350 ألف مواطن عربي, في حين أن النسبة في أوروبا هي كتاب واحد لكل 15 ألف أوروبي. ويقرأ كل 20 فردا عربيا كتابا واحدا، مقارنة بـ 7 كتب لكل بريطاني، و11 كتابا لكل أمريكي.

ويمكن أن نستوعب بعضا من أسباب الأزمة إذا علمنا أن أكثر من 40% من الراشدين العرب أميون، مقاربة مع شعوب أوروبية احتفلت بالقضاء التام على الأمية. وتواجهنا هنا مشكلة تحديد من هو الأمي، ذلك أن التحديد هنا واسع ومرتبك، يشمل كل من يجيد القراءة والكتابة، بغض النظر عن مستواه العلمي.

وحين يتعلق الأمر بترجمة الكتب للعربية، فإن العرب لا يترجمون سوى 20% مما يترجم اليونانيون وحدهم من الكتب, مع غياب الترجمات العربية العلمية والفلسفية. وتعاني دور النشر التي تهتم بموضوع الترجمة من شح المال ومن ضعف الإقبال على شراء إصداراتها. ولا تقدم لها الحكومات العربية أي دعم لمواصلة أداء رسالتها في نشر الثقافة والعلم.

وإذا ما اتجهنا إلى موضوع الاهتمام بالأطفال، براعم المستقبل والثروة الحقيقية للأمم، فإن ما تصدره المكتبة العربية من كتب للأطفال لا يتجاوز الـ400 كتاب، مقابل 13260 كتابا للطفل الأمريكي, و5838 كتابا للطفل البريطاني, و2118 كتابا للطفل الفرنسي, و1485 كتابا للطفل الروسي.

في أوائل الثمانينات من القرن المنصرم، سمعت محاضرة عن مستوى استهلاك الورق بالوطن العربي، وأشار المحاضر، أن ما تستهلكه الدول العربية جمعاء من الورق، لا يصل إلى استهلاك إسرائيل وحدها. واعتقدت أن الأمر مبالغ فيه. لكن إحصائيات عام 1996م، بعد ستة عشر عاما على سماع تلك المحاضرة، أكدت أن كل ما تطبعه الدول العربية لا يصل إلى نصف ما تنشره إسرائيل، مع الفوارق الفلكية في تعداد السكان بين العرب والإسرائيليين.

لن نغوص بالحديث في ما تنفقه البلدان العربية من ناتجها القومي على البحث العلمي، فالأرقام تؤكد أن مستقبل التنمية في بلداننا أمام كارثة حقيقية بكل المقاييس. ولن نتحدث عن معدل نشر الكتب في البلدان العربية، وعن عدد النسخ التي تصدر من كل كتاب ينشر. لكن الواقع يصدمنا.

ونكتشف حجم المأساة، إذا علمنا أن مركزا علميا يحتل وضعا مرموقا ومتميزا في مجال البحوث، هو مركز دراسات الوحدة العربية، يطبع 2000 نسخة فقط من أي كتاب يصدره، بغض النظر عن أهمية الباحث ومكانته العلمية. بمعنى أن كاتبا معروفا على مستوى البلدان العربية، كالمرحوم محمد عابد الجابري يمكن أن يطبع كتابه في الأقصى عشر مرات، بما في ذلك موسوعته الشهيرة عن العقل العربي. بمعنى أن نسخ الكتاب التي نفدت من نفس الكتاب لما يقرب من عقدين لم تتجاوز العشرين ألف نسخة في أمة يبلغ مواطنوها الـ300 مليون نسمه. هذا الوضع يبدو مأساويا ومحبطا حين يقارن إلى المليون نسخة التي تصدر عن مؤسسة "أحسن كتاب" الأمريكية، والتي تناول أحدها كيف تعاملت بربارا بوش، زوجة الرئيس الأمريكي، بوش الأب مع كلبها. ومذكرات أخرى لممثلات وعارضات أزياء ينسحب عليها ما ينسحب على ما نشرتها بربارا بوش.

هل لنا أن نغمد سياطنا، ونتوقف عند هذا الحد، من جلد الذات. ولنواصل في الحديث القادم بإذن الله تفكيكا وتشريحا يفتح بوابات الأمل، ويمنحنا وميض ضوء، وزادا للرحلة.. رحلة التماهي مع عصر الثورة الرقمية، والحواسب واللوحات المحمولة.