وكان في أطراف الأحياء بيتٌ حقيرٌ تداعتْ أركانُهُ وأثقلتهُ الثلوج، حتى أوشك أن يسقط، وفي إحدى زوايا ذلك البيت فِراشٍ بالٍ عليه مُحتضر ينظر إلى سراجٍ ضعيف يُغالب الظلمة فتغلبُهُ. فتًى في ربيع العمر قد علم بقُرب أجل انعتاقه من قيود الحياة، فصار ينتظرُ المنيَّة وعلى وجهه المُصفر نور الأمل، وعلى شفتيه ابتسامة مُحزنة. شاعرٌ جاء ليُفرح قلبَ إنسان بأقواله الجميلة، يموتُ جوعًا في مدينة الأحياء الأغنياء. نفسٌ شريفة هبطتْ مع نِعَم الإله لتجعل الحياة عذبة، تودع دنيانا قبل أن تبتسم لها الإنسانية. مُنازع يتنهَّدُ أنفاسه الأخيرة وليس بقُربه سوى سراج كان رفيق وحدته، وأوراق عليها خيالات روحه اللطيفة.
جمعَ ذلك الفتى المُحتضر بقايا قوة قاربتِ الفناء، ورفع يديه نحو العلاء وحرَّك أجفانه الذابلة، كأنه يريد أن يخترق بنظراته الأخيرة سقف ذلك الكوخ البالي ليرى النجوم. ثم قال: تعالي أيتها المنية الجميلة فقد اشتاقَتْكِ نفسي، اقتربي وحلِّي قيود المادة، فقد تعبتُ من جرها. تعالي أيتها الحُلوة وأنقذيني من بين البشر الذين يحسبونني غريبًا عنهم، لأني أُترجم ما أسمعه من الملائكة إلى لغة البشرية. أسرعي نحوي فقد تخلَّى عني الإنسان وطرحني في زوايا النسيان، لأني لم أكن طامعا بالمال نظيره ولا باستخدام من هو أضعف مني. تعالي إليَّ أيتها المنية العذبة وخذيني، فأولاد بجدتي لا يحتاجون إليَّ. ضُميني إلى صدركِ المملوء محبة، قَبِّلي شفتيَّ اللَّتَين لم تذوقا طعم قُبلة الوالدة، ولا لمستا وجنة الأُخت، ولا لثمتا ثغر المحبوبة. وأسرعي وعانقيني يا حبيبتي المنية. إذ ذاك انتصبَ بجانب فراش المنازع طيفُ امرأة ذات مجال غير بشري، ترتدي ثوبا ناصعا كالثلج، وتحمل بيدها إكليل زنابق من نبتِ الحقول العلوية، ثم دَنَتْ منه وعانقته، وأغمضتْ عينيه كي يراها بعين نفسه، وقبَّلَتْ شفتيه قُبلة محبة، قُبلة تركت على شفتيه ابتسامة استكفاءٍ. وفي تلك الدقيقة أصبحَ ذلك البيت خاليًا من التراب، وبعض الأوراق منثورة في زوايا الظلام.
مرت الأجيال وسكان تلك المدينة غرقى في سُبات الجمود وكرى الإهمال وعدم الاكتراث، ولمَّا أفاقوا ورأتْ عيونهم فجر المعرفة، أقاموا لذلك الشاعر تمثالًا عظيمًا في وسط الساحة العمومية، وعيدوا له في كل عام عيدًا ... آه ما أجهل الإنسان!