أكتب مقالي هذا بعد يوم واحد من إغلاق المملكة العربية السعودية لسفارتها في القاهرة واستدعاء سفيرها للرياض للتشاور، كما تبع ذلك إغلاق القنصليتين السعوديتين في الإسكندرية والسويس. وهي خطوة أثارت اهتماما بالغاً، فقد عودتنا السعودية على سياسة خارجية فيها الكثير من الحكمة والتروي وضبط النفس وعدم الانفعال أمام السياسات الصبيانية. فقد كان لإيقاف المحامي المصري أحمد السيد والمعروف بأحمد الجيزاوي في مطار الملك عبد العزيز بجدة تداعيات سيئة تمثلت في شائعة خرجت في الأيام الأولى لتقول إنه معتقل سياسي، وإنه قد حكم عليه بالجلد بتهمة الإساءة للذات الملكية وللمملكة العربية السعودية! وما إن طارت هذه الشائعة حتى وجد بعض البلطجية في مصر الشقيقة ضالتهم. فقام هؤلاء بالإساءة للمملكة دولة وحكومة وشعباً عبر وسائل الإعلام من مقالات ومقابلات وبرامج، ناهيك عن البلطجية الذين حاصروا السفارة فعلياً، وشطبوا اسم الدولة من على بابها، وقاموا بأعمال عديدة مخجلة.

الشائعة الأولى كانت تقول إن الرجل معتقل سياسي، جاء بملابس الإحرام البيضاء، ملبياً قاصداً زيارة بيت الله ومسجد رسوله، فحيل بينه وبين الكعبة، وهو فعل لم يقم به كفار قريش كما ادعت كاذبة زعيمة البلطجية نوارة نجم، وانجرف بعض الناس معها، وبعد أن كادت الفقاعة تنفجر، خرج علينا بيان السفارة السعودية في مصر بحقيقة ما جرى. فالمحامي الموقوف لم يصل جدة محرماً ولا ملبياً كما هو واضح من صورته، وسبب اعتقاله هو تهمة جنائية وليست سياسية، وهي تهريب كمية كبيرة جداً من الحبوب المخدرة "زناكس"، وبالتالي قبض عليه كما يقبض على أي سعودي أو غيره سيقوم بالفعل ذاته. وقد أكد على صحة هذا البيان السفير المصري في السعودية السيد محمود عوف. وما جاء في البيان يعني تغييراً دراماتيكياً في القضية برمتها، على الرغم من أنه من يفكر فيها بمنطق -حتى قبل صدور البيان - سيشعر بأن قصة التهمة السياسية مفبركة. فمن ناحية عبارة "الذات الملكية" غير مستعملة في المملكة إطلاقاً، ولم يسمع السعوديون بها قبل الأحداث، فقائد البلاد يقدم نفسه لمواطنيه وللعالم على أنه للحرمين الشريفين "خادم". ومن ناحية ثانية، لماذا تجلب السعودية لنفسها المشكلات فتعطي رجلاً يسيء لقائدها المحبوب تأشيرة؟ ولماذا لم تمنعه من الدخول لو كان اسمه في القائمة السوداء؟

ليست هذه المرة الأولى التي يقع فيها حدث جلل في العالم أو المنطقة أو في الداخل السعودي، وبالتالي تنتشر الشائعات والأقاويل إلى الدرجة التي تتحول فيها الخرافات لثوابت تاريخية ولا يبالي أحد بعد ذلك بالحقيقة حين تعرض. وإذا كان هذا هو الحال في الماضي، فإنه في العصر الراهن في زمن فيسبوك وتويتر والواتسب وسكايب تكون الخسائر مضاعفة، فهذه الأدوات من أهم ميزاتها سرعة نشر المعلومة والخبر بشكل غير مسبوق، وبالتالي تشكل بيئات مثالية لنشر الشائعات لدى أصحاب الأجندات الخاصة.

وعودة إلى قضية الجيزاوي، فبعد البيان السعودي أصبح المشوشون في حرج، خاصة مع موقف السفير المصري، فانتقلوا من أحمد الجيزاوي إلى قضية آلاف المصريين السياسين المعتقلين في السعودية دون محاكمات، كما ذكر برنامج المذيع حافظ الميرازي على قناة دريم المصرية، وهنا ابتدأت حفلة أخرى من الردح والدعوة لتحرير المصريين. ومرة أخرى ننتظر الرد السعودي الرسمي ليفند ما قيل، فالقضية ليست فقط إيضاح الحقيقة للرأي العام المصري وإنما للرأي العام السعودي قبل ذلك.

ردة الفعل الشعبية للسعوديين على احتجاز الجيزاوي مثلاً قد اختلفت كثيراً قبل وبعد البيان السعودي. ففي البداية انقسم الناس إلى ثلاث مجموعات: فقسم محدود صدق الرواية المصرية، وقسم مشابه آخر رفض الاتهامات تماماً، وقسم ثالث يمثل السواد الأعظم اكتفى ربما بالصمت على مضض بسبب الحيرة وعدم الرغبة في الحكم دون دليل. لكن ما إن صدر البيان وما تلاه حتى انحاز جل السعوديين إلى موقف بلادهم، وتجلى ذلك بشكل كبير حينما باركوا الخطوة السعودية الدبلوماسية القوية مع الجانب المصري. فالإساءات التي قام بها البلطجية أمام السفارة والإعلام الرسمي لم تؤخذ على أنها موجهة للحكومة السعودية كما يصر بعض المصريين، وإنما على أنها موجهة للدولة وشعبها. فالإساءة لملك البلاد، وإنزال راية التوحيد، وإهانة السيفين والنخلة، أمور تجرح كل مواطن، بل وكل شخص يحب السعودية من غير أهلها.

وللأسف، ظلت هناك فئة صغيرة تحاول أن تبرر لبلطجية الثورة وللجيزاوي أفعالهم ما دام هذا الأمر يجعلهم في الخندق الآخر، وهؤلاء انكشفوا أمام غالبية الشعب السعودي. فأول الشروط لأن يُحترم الإنسان هو أن يتمتع بالمصداقية، أما الاستكبار عن الحق فهذا يسيء للشخص نفسه، ويجعله غير مصدق في حوادث أخرى، فمن يكذب مرة سيكذب مرات، ولذلك آثر بعضهم حينما رؤوا هذا الالتفاف الشعبي خلف القيادة السكوت تماماً والاختفاء من الساحة حتى لا يقع في حرج سؤاله عن رأيه.

نحن في عصر الإعلام بكل ما تعنيه هذه الكلمة، الإعلام الرسمي والخاص والشعبي التفاعلي، والخبر ينتقل من الرياض إلى ألاسكا في دقائق معدودة. هذه الحقيقة التي يجب أن تكون ماثلة في ذهن من يتولى الملفات الإعلامية. فلم يعد مقبولاً أن يكون هناك تأخر في توضيح المواقف وإبراز الحقائق، إن كانت المملكة تريد الاحتفاظ بسمعتها ومكانتها، وذلك لا يكون إلا عن طريق إدارة اللعبة الإعلامية بطريقة فعالة مناسبة للعصر.