كان الرز، الذي يأتي مع حجاج العراق والمناطق والبلدان التي حوله، والذي ينتشر عبقه من مسافة بعيدة، يجعلك وإن كنت ممتلئ البطن تهفو إليه من جمال رائحته ولذة نكهته، ولا شك أن رائحته وهو يطبخ تلوي رقبة وفم كل أكيل.

و«التمن» هو الرز، و«البسمتي بالذات» حق زمان الذي لم تصل إليه يد الأسمدة الكيميائية بعد، والفرق بينهما بعد السما، خاصة بالنسبة لنا عندما كان الرز البكة سيد المائدة الخصف.

ويقال إن سبب تسمية الرز «التمن» في العراق هو أنه أيام الحرب العالمية الأولى رفض العراقيون تزويد الجيش البريطاني بالرز، فاضطروا لطلبه من بريطانيا، فأرسلت حمولات منه، وكل كيس كتب عليه «Ten men»، وكانوا عند تفريغ الأكياس يرددون بلهجة مدمجة «تنمن تنمن»، فأطلق علي الرز من يومها اسم «تمن».


هذه المقدمة هي لتعريف كلمة «التمن» وكيف جاءت، والسالفة تبدأ من تماهي هذا القول مع المثل «مس قلبي ولا تمس رغيفي»، الذي يضرب عندما تتعارض العلاقات الاجتماعية والصداقات مع المصالح الاقتصادية، وكان هذا المثل على «أد الحال»، فلا يضرب إلا على الغلابة الذين بالنسبة لهم الرغيف مسألة ضرورية وحيوية، فهم ودهم يتعبون أو يمرضون ولا تنقطع لقمة العيش عنهم وعن أولادهم.

ثم تطور المثل حتى أصبح يعني الجشعين الذين يفضلون المال والجاه (الذي على كل حال يأتي بالمال) على الصحة والسمعة والعلاقات الأسرية.

إذا هل المجتمع الدولي والدول الكبرى أو حتى الصغرى تغلب الأخلاق وحسن الجوار والعلاقات الأخوية على المصلحة الاقتصادية؟، طبعا لا، ولتذهب الأخلاق إلى المحرقة، والعلاقات الودية إلى سلة المهملات، فعندما ألغت أمريكا الاتفاق النووي مع إيران قامت قائمة الدول الأوروبية ولم تقعد حتى الآن، لحماية مصالحها، فأصدروا التصريحات المناهضة لما قام به رئيس الولايات المتحدة الأمريكي السابق (هذا إذا بقي لقبه كذلك)، وأصدروا القوانين التي تحميهم من عدم المقاطعة، والتي لم تنجح كثيرا، وذلك ليس حبا في إيران (مع إن كل شيء جائز والله أعلم) بل حفاظا على كل قرش ممكن أن ينقطع، خاصة أن مصالحهم مع الأمة العربية «عال العال» وليس عليها غبار، ولو جاء بعض الغبار صدفة فنفخة بسيطة تطيره «وكأن شيئا لم يكن وبراءة الأطفال في عينيه».

وبناء على سلوك إيران السيئ والعدواني، فمن الأهداف المشروعة إضعافها ما دامت هي عدوة بالخفاء والعلن، ومصائبها لا تطال إلا الأمة العربية، والعربية هذه ضعوا تحتها وفوقها ومن جنبها خطوط حمر، فلا يخفي على كل حاذق أو أبله أن بعضا من هذه الدول كانت، وبعضها لا يزال، يدعم إيران من تحت السجاد الإيراني، وبعضهم من فوقه، همهم أنها ترتاح، على أي جانب تحب تنام عليه أو تصحو، هي حرة، المهم راحتها وأنسها، أما الدول العربية المتضررة بكيفها، فهي مهما تكن «ولأننا أمة عربية واحدة» ستعمل لهم خاطرا بحكم أن «الأخوة من طرف واحد واجبة».

هكذا هي نظرة بعض الدول وسياساتها، واعتقادها أن أكبر الدول، حجما ومالا، لا يملأ عينها إلا التبر، واللي ما يعرف التبر يرميه، ولكن الدول الأوروبية غير، فهي تعرف من أين «يلهط التبر»، ولو علمت أنها كانت ستخسر السوق العربية والغنية منها بالذات لما عملت حساب التمن الإيراني ولا من السماء ولا السجاد الحرير، ولقالت: خلينا مع القهوة العربية أصرف لنا.

ومع تغير الإدارة الأمريكية تبحبح الأوروبيون، ومعهم ثلة من أعضاء مجلسي النواب والشيوخ، وعلى قول المثل الشعبي «ما صدقت فطيمة بهذي الكليمة»، وبدأوا يعدون البساط الأحمر لمرور إيران، وأخذها بالأحضان الدافئة، متناسين ما فعلته في العالم كله، طبعا ما عدا إسرائيل «العدوة الكبرى»، فهذه عينها حمراء لا تعرف اللف والدوران، ويا ويل إيران أو أحد وكلائها أن تعرض لها، فليس عندها «يمه ارحميني»، ولذلك لا تجرؤ إيران مس شعرة من رأس نيتانياهو بسوء فكيف بإسرائيل.

من جهة أخرى، يتناسى الأوروبيون وبعض ساسة أمريكا ونوابها وبعض شيوخها أن هناك انتخابات حصلت في اليمن، وكان هناك حوار بين فئات المجتمع وساسته ونخبه لخارطة طريق يسار عليها، تأخذ في الحسبان كل مكونات وأطياف الشعب اليمني، ولكن «الحوثي» ترك الحوار، وقال: دعهم في حوارهم يعمهون ونحن على الانقلاب عازمون. لقد تناسى المجتمع الدولي أن الحوثيين يحاصرون «تعز» من سنين، ويمعنون في القتل والتنكيل فيها بل وفي كل المناطق، وكذلك اعتداؤهم بالصواريخ والمسيرات على المدنيين داخل اليمن وخارجه، وما حادثة مطار عدن ببعيدة، التي ذهب ضحيتها المئات من اليمنيين بين قتيل وجريح، لكن يبدو أن إجرام الحوثيين مرفوع عنه القلم.

لقد كانت حجة المجاعة فزاعة تستخدم ليست حبا في اليمنيين ولكنها أجندات عمياء، تتعاطي سياسات غبية أكل عليها الدهر وشرب، والمجاعة التي يتحدثون عنها ما كانت تحدث لو نفذت قرارات مجلس الأمن والاتفاقات التي أقرت. أتمنى أن تأتي سياسة الرئيس بايدن، التي أعلنها في خطابه، بتحقيق السلام في اليمن، وأن يكون التعاطي معه ليس في وارد مساواة فئة قليلة انقلابية مجرمة مع بقية الأطراف، سواء كانت الشرعية أو الأطياف اليمنية الأخرى، وإلا أصبح الحكم في الدول كما يقول المثل «الكف لمن سبق».

وهنا يحضرني سؤالا لأعضاء الكونجرس: ماذا لو استولت فئة أو طائفة من المجتمع الأمريكي مثل السود مثلا، أو الذين يتحدرون من عرق معين أو دين، على أمريكا أو جزء منها؟!، فهل سيكون الحل هو التصفيق والاعتراف بتلك الفئة حاكمة لأمريكا؟!.

«إنه مجرد سؤال برىء».