القرآن الكريم كتاب معجز في قدرته على مخاطبة النفس البشرية والوصول إلى مكامن ضعفها وقوتها، ولطالما توقفت وأنا أقرأ القرآن الكريم عند تلك القدرة على الوصول إلى دقائق أسئلتي ومنولوجي الداخلي والتفاصيل الصغيرة جدا التي تدور في عقلي. فالقرآن الكريم كتاب هداية ورحمة، وبلسم ينسكب على النفس ليهدئ من روعها ويبصرها بطريق الخلاص، وهو إعجاز لغوي قائم بحد ذاته لا يحتاج إلى حجج لإثبات صحته!
ولكن حزب تفسير القرآن الكريم بالعلم، والبحث في ثنايا الآيات الكريمة عن اكتشافات علمية أو إرهاصات مستقبلية ـ لما تطور بما يسمى اليوم الإعجاز العلمي في القرآن ـ يوحون أن القرآن يحتاج إلى قرائن علمية لتثبت أن مصدره من لدن العليم الخبير! فنحن لا نسعى إلى إثبات ما نحن واثقون من صحته، وفي رغبة الإثبات اعتراف ضمني بالإنكار وميل للتثبت مما يفترض أنه لا يحتاج إلى برهان!
يسلك أنصار الإعجاز العلمي طريقا شائكا في سبيل إثبات صحة ما ينّظرون له، ويلجؤون إلى تطويع الكلمات ولي عنقها، لتلبس رداء النظرية العلمية متغافلين أن العلم ينقض نفسه في أحوال كثيرة وما هو صحيح علميا اليوم، قد يأتي الغد بما يناقضه تماما! فكيف يشرح وقتها جهابذة الإعجاز العلمي هذا التناقض؟! والإشكالية أن ربط مفردة العلم بمفردة الإعجاز يوحي بوجود صراع بين الدين والعلم، ففعل الإعجاز أو التعجيز هنا يقوم به الدين ليعجز العلم ويثبت سبقه إليه، وورود المعلومة في القرآن قبل أن يصل إليها العلم! مع أن ديننا الإسلامي ينفي فكرة الصراع بين الدين والعلم، فكلاهما ينطلقان من تحقيق الخير والمنفعة للإنسان، والإسلام يدعو إلى طلب العلم ويعلي من مكانة العلماء ويصفهم بورثة الأنبياء.
كما أن هذه المحاولات الدؤوبة للكشف عن إعجاز علمي بين دفتي القرآن أو الحديث ليست إلا وسيلة تعويضية عن عدم وجود إنجازات ملموسة للمسلمين على أرض الواقع، وعن محاولة اجتراح المعرفة وإثبات وجودنا في عالم لاهث يخرج علينا بالجديد المثير كل يوم! وبدلا من العلم والعمل نكتفي باستهلاك منتجات الحضارة الحديثة، ثم نسارع مدفوعين ـ بعقد النص ـ لتقليب صفحات القرآن أو كتب الحديث.. بحثا عما يضخم الذات، فقد وصل ديننا وكتابنا ـ من قبل ـ لما تعب علماء ـ اليوم ـ ليصلوا له! ثم ما الحاجة إلى العمل والاكتشاف، بينما نستطيع أن نجد كل الإنجازات العلمية مسطرة في كتابنا؟!
ختاما: يجعل أنصار الإعجاز العلمي الغرب مرجعيتهم عندما يربطون النظريات الحديثة بالقرآن الكريم، فيدور العقل المسلم في مدارات العلم (الغربي)، ويغرق في مزيد من التبعية في حين أنه يزعم التحرر منها! يقول الدكتور طه جابر العلواني مدير المعهد العالمي للفكر الإسلامي السابق ورئيس جامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية في أمريكا: الذين يفسرون القرآن تفسيرا علميا، ثم يقولون بالإعجاز العلمي، سيخلصون إلى نتيجة: أنه لما كان القرآن سابقا في الكشف عن هذه الأمور فهو معجز ومتحد حتى لهذا العلم، وبهذا فالعلم الغربي عند هؤلاء هو الأساس ومن ثم فالعقل المسلم لم يتحرر!