«الردودة» في عسير عوالم من الكلام مفتوحة، ودلالات مركبة، وسيولة لغوية فاتنة، وموروث سردي مشحون بنص إلقائي قصير، يعتمد على الإيجاز والبديهة والارتجال والجرأة والاقتدار في عبارة مبهرة بعيدة عن التكلف والصنعة والحذلقة القولية الممجوجة.

تقول معاجم اللغة: «الردودة تردد صوت الإنسان وترديد القول ونحوه وتكراره وإعادته» عندما تقتعد مجلسك داخل فضاء الحالة وتصغي لأولئك الرجال وهم يسكبون ردودتهم في المجالس العسيرية أو الساحات العامة، وفي مواقف الأفراح والأحزان وإصلاح ذات البين، أو النصح والإرشاد، وغيرها من مواقف الحياة فستصيبك الدهشة والذهول من قدرتهم العجيبة من فصاحة اللفظ وبلاغة المعنى، ونحت النصوص واستيلاد مضامينها الإبداعية، «الردودة» وثيقة تاريخية ومنجز ثقافي، يستحق التدوين والحفظ من خلال استحضار «النماذج» المعرفية المنتزعة من قلب وروح المجتمعات ذات القيم والأعراف والجذور ونصاعة الماضي، عندما تصغي للردودة يأسرك ترويضهم للكلام وترتيبهم لأنساقها كالاستهلال بحمد الله وتمجيده، وتوشيحها بآيات قرآنية كريمة وتزيينها بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، مع الإحالة إلى تجليات من الحكم والأقوال المأثورة التي تعلي وترفع من قيمة تلك «الردودة» وتؤكد صدقيتها وقوة طاقتها، وتأثيرها النفسي والوجداني، فجوهرها يتمثل في جماليات التعبير ومواءمة الحالة، وخصوبة الإلقاء، والانسراب داخل الأسماع والقلوب.

ترى كيف نحفظ هذا الأثر المتوارث والاعتداد به وتسجيل نماذج من نصوصه واستنساخ صور من أشكاله وتبصير أجيالنا به، وذكر مبرر بقائه كمنتج بشري رائع.


أتمنى من الأكاديميين المهتمين بتحليل النصوص أن يضعوه هدفا لبعض الرسائل الجامعية ليقوم طلابهم بتوثيقه حسب مجتمعاتهم وبيئاتهم وبكل صيغه وأساليبه المختلفة.

تسمع كثيرا كلمة «دراما» وهي كلمة «يونانية» تعني الحدث أو الفعل والمشاهدة، هدفها إيصال رسالة جيدة للمتلقي تعكس ثقافة مجتمعه وعاداته وتقاليده، ولكن «الدراما العربية» وقع أغلبها أسيرا للحب والغرام والإثارة المفتعلة والنمطية، بينما التنويعات الدرامية «غير العربية» نجحت في الهيمنة الذهنية على المشاهد وسحبه بعيدا حين «قنع» الرسالة بهدف آخر وهو «الدراما السياحية» فالمكان هو البطل في المشاهدة، حيث يأخذ عين المتلقي وحواسه إلى المرئيات الانتقائية التي ترفد الحدث وتسوقه سياحيا مثل: الغابات، الأنهار، الأحياء القديمة، المتاحف، الجزر والشواطئ، فن العمارة، الجبال الثلجية، الآثار، الرقصات والفنون الشعبية، المقاهي والأسواق التراثية، وغيرها من معالم تلك البلدان، مما يغري المشاهد إلى شد الرحال إلى تلك الديار.

ترى هل شاهدتم عملا دراميا سعوديا يضفر نصه المكتوب على الاحتفاء بالمكان في «عسير» مظهرا جماله وقيمه وعوالمه وموجوداته ومناخاته الزمانية والمكانية، ومسوقا لكل مكوناته الحسية والمعرفية، كاشفا أسرار أرضه ونكهة الحياة ومألوفاتها والإفصاح عن أرشيفها ومخزون الجمال فيها، مستثمرا سطوة طبيعتها وموحياتها اللامتناهية.

إننا نعول في قادم الأيام على أعمال درامية تشتبك مع هذه الفضاءات الخضراء في «عسير» والتعاطي مع ذاكرة المكان، واستزراع سرد روائي محمل بالدلالات العميقة، ومتكئ على معادل موضوعي بحجم الحياة إنه «الأرض والإنسان» في عسير.