تبلغ التجريدية ذروتها العليا في قصة تحت المظلة لنجيب محفوظ، ونحن نستطيع أن نلمس بذور الاتجاه التجريدي في أدب نجيب محفوظ منذ أن اختتم مرحلته الواقعية الاجتماعية التاريخية في ثلاثية «بين القصرين»، ولكن هذه البذور التي قد نصادفها على نحو ما في «أولاد حارتنا» أو «الطريق» أو «الشحاذ» هي أقرب ما تكون إلى التجريد الفكري أو الميتافيزيقي الذي أشرت إليه في أعمال سارتر وكامي ودي بوفوار. أي أنه التجريد الذي يصوغ قضية فكرية مجردة بطبيعتها. أما قصة «تحت المظلة» فتختلف في تصوري عن كافة أعمال نجيب محفوظ، الطويلة والقصيرة، إذا استثنينا هذه البذور التي أثمرت شيئا بعيدا كل البعد عن الأصل القديم. في «تحت المظلة» يستلهم الفنان السيناريو السينمائي في عملية البناء المشاهد المتقطعة، وإن تسلسلت في إطار مشترك من الشخصيات والأحداث والمواقف، فأولئك الذين يقفون تحت المظلة خوفا من الرذاذ المتساقط، أو انتظارا لأتوبيس قادم لا علاقة بينهم وبين ما يجري أمامهم. هكذا تبدو الأمور للحظة الأولى، وما يجري أمامهم لا يدع لهم فرصة المشاركة إلا بالتأمل والدهشة، فاللص المطارد يتحلق حوله المطاردون، يصفقون له وهو يرقص عاريا، والشرطي يقف بلا حراك، والسيارتان المسرعتان تصدمان وتحترقان، ويخرج رجل وامرأة من إحدى العمارات فيخلعان ملابسهما.....فوق إحدى الجثث المحترقة، والشرطي يقف بلا حراك، ويبني العمال قبرا عظيما يضم الحطام، ويتربع فوق القبر رجل يتردي روب القضاء، ويشتغل الشجار بين الخواجات والبدو، واشتد كل شيء وبلغ غايته، القتل والرقص والحب والموت والرعد والمطر، والشرطي ما يزال واقفا بلا حراك، حتى إذا أقبل ذلك الرجل الذي ظنه الناس «تحت المظلة» أنه مخرج الفيلم وتدحرج الرأس الدامي عند قدميه صاح «برافو برافو»، ووجه منظاره إلى رجل وامرأة واقعان في الحب ونصحهما بتغيير الأوضاع حتى لا يتسرب إليهما الملل، ولكن حتى هذا الرجل الغريب يتلاشى وكأنه لم يكن يبدو عليه الضعف والخور فجأة ويزول، وأخيرا يتحرك الشرطي حركته الوحيدة فلا يعنيه الرأس الدامي المبتور من الرقبة والمنحدر أسفل الرصيف بقدر

ما تعنيه «بطاقات» أولئك الفضوليين «تحت المظلة» الذين لا يكفون عن الأسئلة وعن مناداته، وسواء أثبتوا هوياتهم أو لم يثبتوها فلا شك أنهم مجتمعون هنا لأمر ما مهما ادعوا جميعا أنهم لا يعرفون بعضهم بعضا، وإنما هم مجتمعون على أية حال، والاجتماع على هذا النحو يقتضي من الشرطي أن يتحرك، وأن يتراجع خطوتين إلى الوراء ويسدد بندقيته إلى صدورهم ويطلق النار بسرعة وإحكام، وكانت هذه الخاتمة هي العلاقة الوحيدة التي تربطهم ببقية المشاهد التي تجري أمامهم، فلقد تجاوزوا حقهم في الوقوف «تحت المظلة»، خوفا من البلل أو انتظارا لأوتوبيس، وراحوا يتأملون ويدهشون. لقد عمد نجيب محفوظ إلى عملية «مونتاج» للا منطقي وغير المنسجم، بحيث يبدو اللا منطق هو المنطق، وغير الحقيقي هو الحقيقة، والتمثيل هو الواقع. ولعلنا نلحظ أن الفنان قد استخدم البنية الموسيقية في تقطيع المشاهد بلازمة محددة، هي تساؤل الواقفين «تحت المظلة» عما إذا كان الذي يرونه فيلما سينمائيا «وإلا فهو الجنون»، ووقوف الشرطي بعيدا بلا حراك، هذه هي اللازمة الموسيقية التي كررها الفنان فيما يشبه الحوار بين كل مشهد وآخر، ولم يكن حوارا وإن بدى على هيئة تعليقات متناثرة، وعندما افترض الواقفون «تحت المظلة»، أن ما يرونه هو الواقع، تحرك الشرطي حركته اليتيمة وفصل رؤوسهم عن أجسادهم، ومن المفيد القول بأن «العلاقات» داخل القصة لا ترمز إلى أشياء خارجها على الإطلاق، فليس المقصود باللص العاري الراقص ومن يمارسون الحب في الطريق العام، فوق جثث الموتى وقبورهم، ومن يقف في روب القضاء، أو يبدو كمخرج، ومعارك البدو والخواجات ليس المقصود من هذه العلاقات جميعها أن ترمز إلى أشياء بعينها خارج القصة في الواقع المرئي والمألوف، وإنما يستهدف الفنان تجسيم «الفوضى المخيفة» و«المناخ الدموي» الذي يعيشه عالمنا المعاصر في كل مستوياته، التي تبدأ من الشرطي الذي لا يبالي إلا بأن يجعل من هذه الفوضى نظاما ومن دماء الرؤوس المقطوعة قانونا، إلى الشرطي الذي يشعر أن المظليين تجاوزوا حدودهم، قسموا الأشياء بأسمائها وقالوا إن هذه فوضى وذاك جنون وتلك مذابح، فلم يكن منه إلا أن يؤدي واجبه مضطرا، فينظم الفوضى ويعقل الجنون ويقنن المذبحة ويصوب رصاص بندقيته إلى الصدور لتنزف والرقاب لتتساقط، أي ليزيد الفوضى فوضى والجنون جنونا والمذبحة دما، ولكن إذا أقبل أحد من جديد ليقف «تحت المظلة»، فعليه أن ينتظر الأتوبيس أو يتقي البلل، وعليه أن يتحاشي ما استطاع تلك الجرثومة الخفية التي تغرق عينيه في التأمل أو تفتحهما على الدهشة. ومن المفيد القول أيضا إن نجيب محفوظ لم يكتب عملا من أعمال اللا معقول، فتجريد الوجود عند كتاب اللا معقول، هو إخلاء المسكن من زخارف الأثاث وتفاصيل البشر والنظر إليه بموضوعية المعلم، وهي الموضوعية القائلة إن لا قيمة للمسكن في ذاته ولا في ساكنيه، لا قيمة على الإطلاق. إن نقطة البداية عند نجيب محفوظ في «تحت المظلة» شديدة الاختلاف على الرغم من كل ما يبدو على جزئيات القصة من لا معقولية مفرطة، ولكنها اللا معقولية التي لا ترادف العبث وإنما هي تشيع تلك الرائحة النفاذة لما أسميه بالفوضى المخيفة والمناخ الدموي، ذلك الشيء النقيض للمدينة الفاضلة. فبينما كان أنبياء المدينة الفاضلة من أكثر الناس تنظيما لها وتجسيدا لمثلها العليا، فإن نجيب محفوظ يقدم لنا المدينة الجهنمية التي صار إليها عالمنا بدءاً من أكثر مستوياته تقدما وانتهاء، بأكثرها تخلفا، بغير استثناء. إن مدينة نجيب محفوظ الجديدة هي نقيض حارته القديمة، فقد كانت هذه مدينة فاضلة حقا على الرغم من كل الصراعات والتمزقات التي عانت، كان العلم هو الأمل الخافق بين أضلع الفنان وصدره، ولكنه بعد 10 سنوات يأتي ليقول إن الحارة أصبحت مدينة حقا، ولكنها مدينة جهنمية، فوضاها نظام وجنونها عقل ومذابحها سلام. ومدينة محفوظ الجديدة كحارته القديمة، لها وجهان الوجه الإنساني العام الذي يعني العالم كله، والوجه المحلي الخاص الذي يعنينا نحن على وجه التحديد، فهي رؤيا للعالم، وإن شكلت بلادنا جزءا لا ينفصل عن الأحداث.