الآن يستحق الإعلام السعودي بقنواته وصحفه كل التقدير والشكر لأنه لم ينجرف نحو الدخول في مواجهة حفلات الردح التي شهدتها بعض وسائل الإعلام المصرية.
الذين يرون في ذلك ضعفا هم في الواقع مخطئون للغاية، فالمواجهة ليست بالصراخ ولا بالمساجلات الإعلامية، خاصة في حادثة يمثل القضاء والقانون محورها وعامل الحسم الأهم في مجرياتها.
نتفهم نحن في المملكة، ذلك الظرف السياسي الحالي الذي يعصف بمصر: انتخابات على الأبواب وصراع سياسي محتدم بين مختلف القوى والتيارات السياسية، ومحاولة كل جهة لتكديس أكبر عدد من الجمهور، مما يعني صعوبة أن يظهر تيار سياسي في هذه الفترة ليعلن رفضه لما يحدث من ردود فعل سلبية تجاه قضية الجيزاوي، لأنه ببساطة سيغامر بجماهيريته وسيجعل من نفسه موضوعا لدى الخصوم قابلا للإقصاء والاتهام بالخنوع والمذلة والتفريط في كرامة المواطن.
ومع غياب مرجعية سياسية واحدة أصبح الصوت المصري ضائعا بين تناحر القوى السياسية وبين ما تبثه الفضائيات المصرية.
استنزفت بعض وسائل الإعلامية المصرية فكرة "كرامة المصريين" استنزافا شديدا، بل ظهر من الإعلاميين المصريين من يزايد على أبناء وطنه، وتم اختصار ثمانين مليون مصري في قضية رجل واحد هو الجيزاوي. ولأن الشارع المصري كان يعيش حالة من التشبع الإعلامي بقضايا الانتخابات والمجلس العسكري والإخوان ولجنة الدستور ووالدة أبو إسماعيل والشاطر وحزب الكنبة وعمر سليمان، فقد جاءت قضية الجيزاوي مختلفة نوعيا ومثلت فرصة لتسويق من خسروا حضورهم في الشارع المصري فاتجهوا للعب على عناوين مثل الحقوق والكرامة وكرامة ما بعد الثورة.
كل تلك القصص التي تم تلفيقها حول قضية الجيزاوي وأنه قام برفع قضية ضد (الرياض) لدى القضاء المصري، تدعو للضحك أكثر من كونها تستحق المناقشة، فأبسط أبجديات التقاضي تلك المتعلقة بالولاية المكانية، إذ لا يمكن لأحد أن يرفع قضية ضد أي أحد في أي مكان يشاء.
لكن بعض من صدق ذلك لم يتجاوز المنطق فحسب بل تجاوز كلام الهيئات والجهات الدبلوماسية المصرية في السعودية، وعلى رأسها السفير المصري في السعودية الذي كان رأيه واضحا في نفي كل تلك القصص التي أشيعت حول القبض على الجيزاوي.
في لقاء على قناة المحور، كان السفير السعودي في مصر أحمد القطان في غاية الوضوح والثقة بالنفس وهو يتحدث عن وقائع القصة، ويشير إلى القصص التي تم اختلاقها، وكيف بدت بالفعل ملفقة ولا منطق لها. ولو أن الجيزاوي كان مهما ومزعجا للسعودية إلى هذه الدرجة لتم التحفظ على منحه تأشيرة دخول أصلا.
إذن، كانت حملة إعلامية، دعمها ذلك الاتساع الهائل في وسائل الإعلام المصرية ما بعد الثورة، حيث تنوعت القنوات الفضائية والصحف الإلكترونية تبعا لتنوع الأحزاب والقوى والتيارات السياسية التي تناست في لحظة أن ما تمثله مصر للسعودية، والسعودية لمصر أكبر من تلك المعارك الإعلامية المفتعلة.
حجم العتب السعودي عال جدا، هل كان من المتوقع أن نشاهد تلك اللقطات ونصدق أنها أمام السفارة السعودية في القاهرة؟
من المؤكد أن تلك المجموعة التي قامت بما قامت به لا تعكس واقع الشعب المصري، إنما ـ وهذا هو الأهم ـ ألم تمس تلك التصرفات سيادة وأمن البعثات الدبلوماسية السعودية؟ بلى.
إذن ما الإجراء الأمثل قي حينها، حماية للعلاقات وحفاظا على سلامة العاملين في السفارة والقنصليات السعودية؟ ليس أمثل من القيام بإغلاق السفارة واستدعاء السفير.
علقت بعض وسائل الإعلام المصرية على القرار بأنه كان قاسيا وغير متوقع. لكن ما البديل الأنسب في مثل هذه الحالة، وفي ظل غياب سلطة مركزية مدنية واضحة وتحظى بالإجماع في مصر؟ وتستطيع أن تدير العلاقات مع العالم؟
لم يكن من المناسب الانجراف خلف مواجهة إعلامية، ولا إبقاء السفارة والقنصليات في مواجهة خطر أمني. ليأتي إغلاق السفارة كأمثل تصرف ممكن.
في ليلة واحدة ظهر السفير السعودي في مصر في خمس قنوات فضائية، كان هذا ذكاء يستحق الإشادة، لأن الجزء الأكبر من مشكلة الجيزاوي كانت إعلامية أكثر من كونها حقوقية أو قضائية.