هذا الكمون والسكون الذي تشهده الدول ذات الاهتمام بمحاربة الفكر المتطرف والقتال المسلح، يطرح سؤالاً ملحاً على المراقبين والمحللين السياسيين والمثقفين عن السبب في ذلك؟ لأن تاريخ هذه الجماعات يُثبت لدى أي دارس لتاريخها، ويتضح له أنها جماعات ذات نفس طويل، وأنها تتحين الفرص كي تظهر ظهورا بينا في الساحات العامة واقتحام المجتمعات بشتى الطرق. وهذا يتضح منذ بدايات تلك الجماعات والتي تتمثل في الإخوان المسلمين حينما شدد رئيس الوزارة إبراهيم عبدالهادي في عهد الملك فاروق عام 1949، بعد قتل مرشدها الأول حسن البنا، ثم بعد ذلك لما أقال الملك وزارة إبراهيم عبدالهادي، ثم جاء بوزارة تسيير الأعمال برئاسة حسين سري، لتشرف على الانتخابات، وقد خفف حسين سري القبضة الأمنية التي كانت في عهد إبراهيم عبدالهادي، فأفرج عن المعتقلين من الإخوان المسلمين لاستمالتهم، بعد ذلك فاز بالانتخابات حزب الوفد، وأصبح النحاس رئيسا للوزراء عام 1950، فخفف كذلك الوطأة الأمنية على جماعة الإخوان المسلمين، فظهروا وكأنهم لم تُشدد عليهم أي قبضة. وكذلك التشدد الأمني والعسكري في عهد عبدالناصر بالستينيات، ثم جاء السادات في السبعينيات فخفف عن جماعات الإسلام السياسي، فنشأت الصحوة الإسلامية الحقيقية التي اجتاحت كل دول المنطقة في الثمانينيات. ثم شددت القبضة الأمنية على جماعات الجهاد والإسلام السياسي في التسعينيات، وذلك لأن الانفتاح الذي استغلته تلك الجماعات نتجت عنه كثير من الأعمال الإرهابية والتخريبية في مصر وكينيا وفي أمريكا والسعودية، واستمر ذلك التضييق حتى قيام ما يُسمى بالثورات عام 2011. ثم تنبهت الدولة السعودية لذلك الخطر الحقيقي لما يُسمى بالإسلام السياسي، وما هي مضامين الطرح الفكري الذي كان يُقرره طوال العقود الماضية، لذا فقد فرضت كثيراً من الإجراءات لكبح جماح توسع فكر وأطروحات جماعات الإسلام السياسي، وأصدرت قرارات بشأن الفكر الإرهابي وتمويله، وحظرت جميع جماعات الإرهاب ذات التوجهات الفكرية السياسية.
خلال العقود الثلاثة الماضية، نجد أن الثقافة المعرفية، وحتى المتخصصة في مجال حقيقة فكر جماعات الإسلام السياسي تُشكل عبئاً كبيراً في كيفية ضبط حركة الحاملين لذلك الفكر، وذلك لاتصافه بالكمون والسكون والتخفي، والحديث عن إشكاليات دينية في العمق المعرفي السائد في التيار الديني، سواءً أكان تقليدياً أم كان حديثاً معاصراً، التي كانت ولا تزال متغلغلة في جميع الجهات، يُعتبر من الأمور التي تمر بعوائق كثيرة. فكما أن هناك خطاً ومساراً يوضح اختلالات الصحوة وما عملته في المجتمع من تصدعات، فإنه ينبغي أن يكون هناك معيار حقيقي لقياس المستوى المعرفي والثقافي في خصوص التأصيل والموروث الصحوي، وكيفية تحصين المجتمع من تلك الأفكار، وما هو المدى الذي يمكن استئصاله؟ ذلك لأن التشدد والتطرف الديني لدى أفراد المجتمع يبقى كامناً لكنه لا ينتهي. ولأضرب مثالاً على أن الفكر الديني المتطرف والحامل لفكر الجهاد المناهض للتجديد والتقدم والتطور حتى لو تمت محاربته عسكرياً وأمنياً (وهذا هو الأسلوب المعمول به حالياً لدى الجهات الأمنية في محاربة التطرف والفكر الجهادي) إلا أن هذا الفكر يبقى حياً ومتجدداً من خلال التغذية الفكرية التي تقوم بها هذه الجماعات لأفرادها. يقول طلال الأنصاري في شهادته عام 1968، (كنت وقتها في مدرسة الناصرية الثانوية بحي باكوس بالإسكندرية، وبدأت أولى خطواتي نحو الانضمام للتيار الإسلامي بهذه المدرسة، وتعرفت على معلمي الأول وشيخي الحقيقي، وكان آنذاك يشرف على تربية مجموعة مكونة من ثلاثين رجلاً كانوا هم التشكيل التنظيمي الوحيد في مصر، والذى بدأ بداية حقيقية عقب محنة الإخوان عام 66، وهذه المجموعة كانت تتبنى أفكار ومنهج الإخوان المسلمين، وبالتحديد أفكار سيد قطب، ومحمد قطب، وقد وضع لنا منهجا ثقافيا يرتكز في الأساس على فكر القطبين سيد ومحمد قطب، فدرست لنا مجموعة من أشهر كتب سيد قطب على رأسها كتابه «معالم في الطريق» وأجزاء كاملة من تفسيره في ظلال القرآن والمستقبل لهذا الدين، ولمحمد قطب درست هل نحن مسلمون وجاهلية القرن العشرين وشبهات حول الإسلام، هذه كانت أشهر كتب سيد ومحمد قطب).
لذا وجبت محاربة هذا الفكر الجهادي المتطرف، الذي يبقى حياً في عمق الفكر الديني الموروث والتقليدي، ما لم يتم تفكيكه وبيان خطورته من حيث تأصيلاته وتفريعاته، حفاظاً على أصل الاستقرار والأمن للمجتمع، وهذه مصلحة كبرى يتوجب تقديمها على كل ما عداها من مصالح جزئية وفرعية، أو حتى مصالح متوهمة ومتخيلة، فلا ينبغي الاستكانة لما نراه من هدوء وسكون وكمون من جماعات التطرف والإسلام السياسي، لأن العمل من أجل تنقية المجتمعات من آثار المحتوى الصحوي لتلك الجماعات، يتطلب عملاً عظيماً سواء أكان ثقافياً أم معرفياً أم دينياً، فتلك التيارات ذات التوجهات المتطرفة ممن تحمل مسمى الإسلام السياسي، لا تزال تترصد وتعمل في الخفاء حتى تتهيأ للظهور للعلن، وإن كان بثوب شفاف، بيد أنه يتلون من حين لآخر ليخدع به الأعين.