حيث عاشت ذات الخمسة والثمانين عامًا طفولتها في شدة وقسوة وذلك لقسوة الزمان والمكان والطبيعة، ولشح الموارد والفقر ولصعوبة الحصول على لقمة العيش الكريم. وخلال حديثي معها تتذكر تلك الأيام المؤلمة، وتقول «كنت أعاني شدة الجوع ونقص الملابس التي تقينا البرد وتقلبات الجو».
وتستطرد في ذكرياتها فتذكر معاناتها بعد وفاة والدتها. حيث تروي أنها جاذبتها أحداث الزمان وتقلباته وأنهكها حزن الفقد، والجوع والفاقة وقلة الحيلة وحيرة الفكر. وقالت إنها شاركت الأسرة رغم حزنها وصغر سنها مهمة رعي الأغنام، وأنها لن تنسى مرارة وصعوبة تلك الأيام، حيث تقول «كنت لا أقوى على المشي على الأقدام لمسافات طويلة لتتبع الماشية في رعيها لصغر سني ولحزني ومرضي».
وفي خلال حديثها تذكرت بعض النساء الكبيرات في السن من أهل قريتها، حيث تقول «كن يشفقن على حالي، فيطلبن مني البقاء في مكان محدد بجوار صخرة معروفة حتى يعدن من الرعي في آخر اليوم، فيذهبن بالأغنام، وأنا أبقى في المكان، من الصباح الباكر وحتى المساء بجوار تلك الصخرة، وتحت العراء وفي شدة تقلبات الأجواء حيث ينتابني الخوف من السباع والأخطار الأخرى وأبقى دون طعام أو ماء».
وذكرت خلال حديثها أنها في تلك الفترة الزمنية في معظم أيامها لا تأكل إلا مقدار قبضة اليد من الحب اليابس (وكانوا يسمونه القضوم). ثم تتذكر بكل مرارة وحزن رحلتها خلال سن الطفولة للمشاركة في إعداد وتجهيز خبز التنور، وصعوبة تعلمه وفي إعداد طبخ الوجبة وتقنين الكميات ومقدار الملح الواجب إضافته إلى اللحم، فكانت تلك مهام صعبة أمامها، وأرادت أن تتعلمها، لضرورتها القصوى في تلك الأيام، من أجل العيش والاعتماد على النفس، ولكنها فاقت قدراتها ولم تجد من يسعفها ويساعدها في ذلك إلا أبيها، وذلك بعد محاولات فردية فاشلة، نتج عنها تلقي اللوم والتوبيخ والاستهزاء من البعض.
ثم تستطرد فتتذكر معاناتها وحزنها خلال زواجها في سن مبكر، تحملت خلاله مهام عدة فاقت طاقتها، ورغم ذلك جاهدت وكابدت وصبرت من أجل استمرار الحياة الزوجية في ظل ولادة أحد أبنائها البارين ووفاة والدها، ولكنها تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، فقد تم الطلاق، وبقيت سنة أو سنتين في بيت أخيها، ثم تزوجت فتجدد الحزن والفراق للبعد عن ابنها. لكنها لم تتوقف الحياة ولم تبرى جراح المعاناة والألم. ومرت بها سفينة الزمن بسرعة تفوق الخيال.
وتغير بها المكان، وتبدلت الأحوال، فتجاوزت بفضل الله مكدرات العيش وعثرات الزمان. فشاركت زوجها الجديد مهام الحياة وأنجبت منه الأولاد، فكانت خير عون في زمن المحن. بكل فخر واعتزاز تفوقت تلك المرأة كل التصورات في أدبها وتربيتها الأولاد وحس إدارتها للمنزل وحسن جوارها. عملت وكافحت حتى استقرت أحوالها وأغناها الله من فضله. وبفضله سبحانه وتعالى رزقها الأبناء البارين.
عاشت بعد المعاناة فترة زمنية طويلة مرتاحة البال طيبة مسرورة ورزقها الله من فضله، ولكن لم تمهلها صدوف الزمن وظروف الأقدار للاستمتاع بجميل الحياة، حيث قدر الله أن تفقد سمعها شيئا فشيئا ثم نظرها كذلك، ووهن منها العظم وقصرت منها الخطوة، لكنها بفضل الله، مؤمنة صابرة مسبحة مهللة، مصلية متصدقة تسعى إلى فعل الخير، حافظة لبعض من آيات القرآن التي سبق أن علمها جهاز ترديد الآيات، حيث تردد ما تسمعه خلف الجهاز، وتعلمت ما ينفعها رغم أميتها وبساطة عيشها.
نسأل الله لها دوام الصحة وحسن الخاتمة، فتلك هي رحلة مليئة بالعبر والأحداث خاضتها ورسمت أحداثها صاحبة الشيمة والعربة، تلك هي قصة مخضبة اليدين بالحناء، عاشت عنوان للفخر ورمز للجيل السابق من أمهاتنا حفظ الله منهم على قيد الحياة وغفر الله لمن مات.