الأقنعة من لزوم أي حفلة تنكرية في الكرنفالات والأعياد في الحضارة الغربية، وتلك الأقنعة كانت تستخدم من أجل نزع القيود الاجتماعية عن خاصة القوم من النخب المرموقة، ليتمكنوا من مشاركة عامة الناس في الأعياد والاحتفالات دون بروتوكولات.
وجد نبلاء أوروبا من الرجال والنساء متعة في هذا التنكر؛ فهم يستطيعون ممارسة الرقص واللعب والاحتفال مع من لا يعرفون دون أن يلتفت إليهم أحد، ودون أن ينتقدوا سلبياً نتيجة ممارسة الألعاب التي تشبه أحياناً ألعاب الأطفال.
في حديث شيق قبل عدة سنوات، على هامش معرض الرياض الدولي للكتاب، شبّه الصديق راضي المصارع وضعنا الاجتماعي الحالي بحفلة تنكرية، كلٌ فرد في المجتمع لديه قناع أو ربما عدة أقنعة يرتديها في الحفل التنكري الممتد والطويل.
نقدس القيم النبيلة، وندّعي الامتثال لها لكننا نسلك مسلكاً آخر مخالفا تماماً لهذا الادعاء، والممارسات الدلالية كثيرة، وأبسطها تلك الممارسات المقيتة في المجتمع الإلكتروني التي لا تعكس الصورة كاملة بطبيعة الحال لكنها تعكس جزءاً منها، فالمرآة التي نرى أنفسها من خلالها يجب أن تكون خالية من الكسور والخدوش حتى نرى تلك ندوب الزمن على وجه الثقافة بشكل أفضل.
لا يمكن تبرئة الذات على كل حال، ومن الطبيعي وجود الخير والشر والصالح والفاسد في هذا الكون، لكن الأمر الذي أعتقد أنه يستحق البحث والتأمل هو التعايش الغريب للمجتمع مع حالة التنكر هذه، حتى أصبح كثير من الأمور مجرد شعارات لا تتعدى مرحلة التنظير الذي لا يصمد أمام التطبيق الذي قد يكون مستعصياً أحياناً مع شديد الأسف.
الانتماء للهوية والمجتمع والوطن أمر محوري لا يمكن الحياد عنه، غير أن الدفاع عن الانتماء بالطريقة الطهرانية غير المعقولة أمر غير مقبول في الوقت ذاته، فالمجتمع تكوين بشري وليس ملائكيا، والخيرية التي نتمسك بها ليست مطْلقة على المستوى الاجتماعي، ولهذا يعتبر التقليل من خطر هذه الازداوجية باعتبارها تصرفات فردية لا مجتمعية، أمرا شبيها بإنكار المرض وهي فترة لا تدوم، ولنا في التاريخ دروس يفترض ألا تنسى فكل الثقافات التي ادعت - بل توهمت - الكمال، أصابها المرض ولم تستطع إيجاد علاج شافٍ نسبياً على الأقل.
لنأخذ قضية اجتماعية ظاهرة حتى تتضح الصورة بشكل أشمل، هناك من لا يكل ولا يمل من ترديد معزوفة (الاختلاط) بين الجنسين، وكأن الهدف هو عزل المجتمع لنفسه ليصبح عبارة عن مجتمعين رجالي ونسائي، يعيشان في كوكبين مختلفين يبعدان عن بعضهما آلاف السنوات الضوئية! لو طبقت هذه الفكرة لطالب آخرون بعزل الفاكهة وجميع أصناف المأكولات عن بعضها ليكون هناك سوق خاصة بـ(الكيوي) وسوق آخر خاصة بـ(الفراولة).. بعيداً عن أي احتمال الاختلاط؛ ومثل هذا الأمر يجعلنا في معرض السخرية أمام العالم!
كثير من الأقنعة فرضتها ظروف الحفلة التنكرية التي نعيشها، فبدا المجتمع برمته مرتدياً أقنعة وفرض على آخرين من خارجه ارتداء الأقنعة ذاتها بل ربما فتح المجال أمام المنتفعين للظهور مطالبين بالمزيد من الأقنعة في مختلف الأمكنة.
البعض منا تضطره ظروف معينة للخروج خارج نسيجنا الاجتماعي، للعيش وسط ثقافات أخرى مختلفة، فيكتشف كم من الأقنعة نرتدي، وكم من الوهم نعتقد، وكم من المصداقية نفتقد، في تحميلنا بعض الأمور ما لا تحتمل. ليجد الفرد نفسه أمام حالة طبيعية وإنسانية تستحق التأمل والملاحظة والتفكير، ولا سيما أن الثقافة العربية تشرّبت هذه الأقنعة فأفقدت المجتمعات مصداقيتها.. إذ ربما اضطره مشوار ما للركوب في تاكسي أو قطار أو طائرة تقودها امرأة، أو حتى ركبت بجانبه امرأة فيتقبل الأمر بصدر رحب لأنه يشعر بأنه على طبيعته وسجيته (بلا قناع) بل إنه يتعامل مع نساء بلده في الخارج وفق رؤية مختلفة تماماً عن الداخل.
فالمجتمعات الداخلية تفرض قيودها بنفسها، أي تفرض أقنعتها فرضاً وفق مبدأ الانعزال والتوجس والتشكيك؛ مما يضيع المروءة بين الناس ليصبحوا كما لو أنهم في غابة يجب أن يفترس فيها القوي الضعيف، فيزداد ثقل هذه الأقنعة وتنوعها في الوقت الذي يجب التخفف منها، إلا أن من يخرج بعيداً إلى ثقافة منفتحة هو بطبيعة الحال لن يتواجد في مجتمع ملائكي ولكنه بالتأكيد يجد نفسه بلا أقنعة؛ لأن الحفلة التنكرية انتهت بالنسبة له.. دون أن تكون لها نهاية في الداخل.