منذ مُدَّة ليست بالقصيرة تنامتْ إلى أسماعنا عبارة «أزمة نَصّ»، التي تُشيرُ إلى وجود أزمةٍ حقيقيةٍ بعيدةٍ عن أيِّ ادِّعاءٍ أو حتى مُغالاة، وتُنذِر كذلك بتبِعات تلك الأزمة التي ستُلقي بظلالها على مُخرَجات الدراما الخليجية، ويبدو أنَّ النبوءة قد صدقتْ، والكثير من النصوص الحديثة التي تمَّ تجسيدها في السنوات الأخيرة في أعمال تلفزيونية برهنتْ ذلك، لأن كاتب السيناريو كان شحيحًا وازداد شُحًّا، وأرمي هنا للكاتب الأصيل الذي يمتلك الموهبة الفَذَّة، والخيال الشاسع، والاطلاع الموغِل، وهي الأدوات المعيارية للكتابة التي تُفضي بصاحبها في نهاية المطاف لكتابة نصٍّ بديعٍ مُدَعَّمٍ بمعلوماتٍ دقيقةٍ ومعالجةٍ احترافيةٍ حدّ الدهشة.

إلا أنَّ تلك الأزمة أخذت في الانفراج ببزوغ بعض الأعمال الدرامية الحقيقية التي تتَّكئ على نصوص رصينة، وكان آخرها ما عُرِضَ في رمضان الفائت وحقَّقَتْ نجاحًا لافتًا، ومن بينها عمل «لا موسيقى في الأحمدي» المُقتَبَس عن روايةٍ تحمل الاسم نفسه، صادرة عام 2016 للروائية منى الشمري. تدور أحداث العمل في أربعينيات القرن الماضي حول عائلة كانت تقطن منطقة المرقاب جنوب العاصمة الكويت، ثم انتقلتْ للفحيحيل الكائنة على مقربةٍ من مدينة الأحمدي العصرية التي بناها الإنجليز على أحدث طراز واستقطبتْ نخبة الأُسَر الأجنبية والعربية في الكويت، ويطرح العمل قضايا اجتماعية هامة بعضها غير مطروق دراميًا مُسبَقًا مثل تعايش الطوائف المختلفة، ووجود دُور العبادة المتعدِّدة في الكويت وتزاوج الكويتيين من الأجانب وهجرة السعوديين للكويت.

اللافت في العمل ليس طرقه لقضايا حَرِجة تجنَّبتها الدراما الخليجية لعقود وحسب، بل الإيغال بها، فقد استعرض وجود الإيرانيين كمُكوِّن اجتماعي رئيس في الكويت والترميز لهويتهم الشيعية، وأدخل البدو بجرأة عندما قدَّم شخصية «أبو مشاري» كمُهرِّب للآثار، وأظهرهم كمُكوِّن اجتماعي مُهِمّ غاب طويلًا عن المسلسلات الدرامية بعد أن اقتصر وجودهم على المسلسلات البدوية الأردنية. ويُعتبَر هذا العمل الثاني للكاتبة الذي يُظهِر هذه الفئة بنمطٍ جريء بعد عملها «كحل أسود، قلب أبيض» الذي عُرِضَ عام 2017، كما منح العمل مساحةً لا بأس بها لأطفال متلازمة داون وأومَضَ على قضية حسَّاسة وهي سهولة استدراجهم ثم اغتصابهم، وأظهر العُماني في قلب البيت الكويتي كخادمٍ تنشأ بينه وبين مخدومته الكويتية قصّة حُبٍ لم يُكتب لها الزواج بسبب الفوارق الاجتماعية والطبقيَّة المُتأصِّلة آنذاك.


ولعل مسلسل «أم هارون» الذي يدور هو الآخر في نفس الحُقبة الزمنية تجاسر على أصفاد الدراما الخليجية الكلاسيكية وكان مِعوَلًا هَدَمَ شيئًا من رتابتها لعقود خَلَتْ، إذ تناوَل تفاصيل تاريخية هامَّةً وهي وجود اليهود في المنطقة وتأثير هذا الوجود في الخارطة الاجتماعية والتركيبة الديموغرافية والفكر الديني فيها، والعلاقات بين المسلمين والمسيحيين واليهود، بما فيها العلاقات العاطفية بين المسلمين واليهوديات المنتهية بالزواج، والمظالم والتمييز الذي يعانيه اليهود خلال ذروة الحركة الصهيونية، ثم العنصرية ضدهم في إسرائيل التي ارتحلوا إليها بعد أن تمَّ طردهم من وطنهم.

اليوم بتنا ننبهر من نصوص بمستوى «لا موسيقى في الأحمدي» و «أم هارون» رغم الانتقادات اللاذعة التي طالتهما، فذائقتنا افتقدت هذه النوعية من النصوص الراقية والجادة، واعتادت النصوص التجارية الهابطة، المُنسَلِخة عن الأرومة المحلية، والغارقة في الغزل والحب واللوعة والحرمان، والموغِلَة في الجريمة والانحلال.

صمتتْ الدراما الخليجية طويلًا عن أحداث مهمة كثيرة عبرتْ بالمنطقة، رغم أن تلك الأحداث شكَّلتْ جزءًا مُهمًا من تاريخها ولعِبتْ دورًا أساسيًا في تكوين ثقافتها، وقد قابل ذلك الصمت تناولًا خجولًا وضئيلًا من المؤرخين والأدباء لتلك الأحداث في أعمالهم واشتغالاتهم، رغم أنَّ من أدوار الفن الرئيسة استعراض الأحداث التاريخية بكل شفافية وبكل السُبُل الفنية، فقد انصهرتْ الثقافة بالفنون منذُ عصور، وأصبحتا صنوين لا ينفكان، فكان لِزامًا على الفنون أن تُبرِز الثقافة، مثلما كان لِزامًا على الثقافة تغذية الفنون.

الدراما الخليجية الكلاسيكية كانت تدور في فلكٍ واحدٍ وتُقدِّم الأعمال في قالبٍ ثابتٍ يُرضي الرقيب ولا يَصدم المشاهد، حتى لو اضطرَّها ذلك للجنوح عن الواقع وتحييد المصداقية في أحايين، لكن في «لا موسيقى في الأحمدي» و «أم هارون» حضرتْ المتناقضات الواقعية والاختلافات الطبيعية التي تخلق توازن أيِّ مجتمع، فقد شاهدنا الكنيسة والمسجد، المسلم واليهودي، الشيعي والسُنّي، التديُّن والطبقيَّة، الخمر والتمر، الرقص والصلاة، الثراء والفاقة، الخادم والسيِّد، الفقد والحب، فانتابتنا نوستالجيا إلى ماضٍ أغلبنا لم يعِشه، ودهشة الارتطام بواقعٍ أغلبنا لم يعرفه.