تقع الكتب الشرقية «عربية وتركية وفارسية، وغيرها» في قسم من المكتبة العامة، وضع بعضها في غرفة مستطيلة فيها مناضد وكراس قليلة للمطالعين، وحينما دخلنا هذه الغرفة التي تقع في الدور الأول من البناية، لم نشاهد فيه أحدًا سوى الموظفة التي أخبرها الرفيق بأنني أريد الاطلاع على فهرس المخطوطات العربية كلها، وقال إنها سوف تحضره، وبعد برهة من الزمن جاءت تحمل مجلدات ضخمة وتسجلها في دفتر أمامها، فقربت منها ونظرت إليها، فإذا هي مصاحف وكتب دينية مخطوطة، فأفهمت صاحبي بأن أحدًا كما لم يفهم ما أريد، فكلمها مرة أخرى ثم قال لي: إنه لا يوجد هنا فهارس للمخطوطات العربية، فأفهمته بأن لهذه المكتبة فهرس مطبوع يقع في أحد عشر مجلدًا، وضعه مستشرق ألماني يدعى «أهلورد»، فعاد إليها مرة أخرى وكلمها، فأخذتنا إلى غرفة مجاورة ضيقة، فيها صوانات لبطاقات فهارس الكتب، وفي أحد الصوانات الكبيرة المملوءة بالفهارس، إشارات إلى «فهرس المخطوطات» ثم أتت بإضبارة مملوءة بالبطاقات وفتحتها، وأشارت إلى قسم منها، وقال صاحبي: إنها تقول الكتب التي في هذا الفهرس ليست موجودة، الموجود هنا 83 كتابًا عربيًا مخطوطًا! فقلت لصاحبي بعد هذه الصدمة العنيفة التي صدمتنا: سلها: أين بقية الكتب التي هي 10365 في هذا الفهرس؟ فقالت: لا أدري، ربما يكون بعضها ضاع أو نهب، أو موجود في سراديب المكتبة داخل خزانات.

أردت أن أعرف أسماء هذه الـ83 كتابًا من الإضبارات فلم أستطع، فاستعنت بصاحبي فلم يكن بأسعد حظًا مني في الفهم، لا بد إذن من مطالعة الجزء المختص بالتاريخ، وهو المجلد العاشر من فهرس «أهلورد» كاملًا في هذا الكان المظلم القاتم، ولا بد من مطالعة القسم المختص بكتب الجغرافيا، وبعد ثلاث ساعات أجهدت فيها بصري وجسمي، حتى أحسست كأن الغرفة تدور بي، قدمت لصاحبي ورقة كتبت فيها أسماء 23 كتابًا تتعلق بتاريخ الحجاز وجغرافيته وأنساب العرب وتاريخهم، وطلبت منه أن يسأل الموظفة: هل يوجد شيء من هذه الكتب في المكتبة، فصار يملي عليها أرقامها واحدًا واحدًا، وهي تجيب بالنفي حتى عدها كلها فقلت له: سلها أين توجد؟ فأجابت في مكتبة جامعة «توبنجن» في ألمانيا الغربية.

وا أسفاه !! ها هي الساعة الآن قد قاربت الـ(6:00)، ثلاث ساعات في هذا المكان المظلم، وبعد هذا التعب سأعود من هذه المكتبة بدون فائدة؟ قال صاحبي: غدًا في الصباح سنزور أكبر مكتبة في القسم الغربي، وقد تجد فيها بغيتك.


قلت لصاحبي: أغد إلى مبكرًا صباح السبت لكي نذهب إلى المكتبة ففعل، غير أننا وجدناها لم تفتح بعد حينما وصلنا إليها في الساعة (8:30)، وأمامنا من الوقت قبل فتحها ساعة ونصف، فقال صاحبي: ألا تود أن تشاهد كيف يعامل جنود القسمين المتنقلين بينهما؟ فسرنا في شارع يدعى شارع فردريك، متجهين صوب القسم الشرقي، وهذا الشارع على ما قال صاحبي: كان من أحفل شوارع برلين قبل الحرب بالمباني التجارية الكبيرة من معارض ودكاكين، لم يبق منها الآن سوى أطلالها، ورأيت على جوانبه أمكنة واسعة كانت بنايات فتهدمت وأزيلت أنقاضها ونبتت فيها الأعشاب والأشجار، فقلت لصاحبي: لماذا لم تبن هذه الأمكنة وهي واقعة في قلب المدينة، وفي قسمها الغربي الذي تقوم الحركة العمرانية في كثير من أنحائه على قدم وساق؟ فقال: إنها كانت محلات تجارية لليهود الذين خرجوا من برلين قبل الحرب، وقد هدمت إبان الغارات على برلين، فأزيلت الأنقاض ولم يجرؤ أحد على البناء فيها لأن أصحابها مجهولون، والحكومة لا تمانع في بيعها على من يريد بناءها، ولكن المشتري عرضة في أي وقت من الأوقات لأن يأتي أحد اليهود فيدعي بأنها ملك له، فتصادر من صاحبها وتدفع إلى ذلك اليهودي بدون أن يعوض بانيها، ثم تمادينا سيرًا في الشارع حتى وصلنا إلى شارع آخر يتقاطع معه فرأينا عددًا من الجنود واقفين في نقطتي التقاطع، ورأينا السيارات القادمة من القسم الشرقي لا تجوز سيارة حتى يوقفها الجنود ويطلعون على ورقة يعرضها عليهم سائقها ثم يدخلون جوف السيارة ويفتشونها، ثم لا يكتفون بذلك بل يرفعون غطاء محركها ويفتحون مكان ما يحمل فيها، ورأينا بعض السيارات يأمر الجنود برجوعها إلى الجهة الشرقية، أما السيارات القادمة من الجهة الغربية إلى الجهة الشرقية فهم لا يتعرضون لها، ولم نر الجنود الواقفين في نقطة التقاطع الغربية يفعلون شيئًا مما يفعله الجنود الآخرون، بل لم نرهم تعرضوا لسيارة قادمة أو ذاهبة، وتابعنا سيرنا حتى شاهدنا بعض المعارض التجارية في القسم الغربي، ولما أظهرت استغرابي لصاحبي من رخص أثمان المعروضات بالنسبة لما أعلمه من انخفاض قيمة المارك الشرقي، قال صاحبي: إنك لو أردت شراء شيء منها لما استطعت، إلا إذا دفعت القيمة بعملة غربية مماثلة للقيمة المحددة بالمارك الشرقي، وعلى هذا فهي غالية جدًا.