لا غرابة في أن تسمع جملة من رواية أو بيت شعر ضمن أحد الخطابات الرسمية السياسية في الغرب، لتعرف عندها إلى أي مدى يترك الأدب أثره في نفوسهم، وكيف هو صدى الإبداع في أوساطهم، ما يدعونا إلى التساؤل حول العوائق التي تحول دون وصول الأدب العربي إلى آفاق أوسع مما هي عليه الآن، وما الأسباب التي أبقت الأدب محصورا بين مجيز ومانع، ومحلل ومحرم حتى تقوقع، ولم يتجاوز إطاره النخبوي، فأصبح مثاراً للشك والشبهة لا منارة للعلم والثقافة والمعرفة.

الشاعر محمد زايد الألمعي يرى أنه في المجتمعات ذات المسار الأحادي في تشكيل الوجدان الشعبي يمكننا أن نجد طبقة عازلة من النخب السلطوية، تقوم بصناعة الوجدان العام وتشكيله باتجاه الولاء لها، مضيفا أن الفنون والآداب تنزع دوماً نحو مقاومة الوصاية وتزدهر في بيئة الحرية، ولذا فإن منتجيها يجدون أنفسهم في عزلة فرضتها عليهم طبقة تسوّق لأيديولوجيات معينة.

وألمح الألمعي إلى أنه بقراءتنا لحالة المجتمع الشيوعي إبان نظام الحزب الواحد نجد أن الأدب والفنون أصبحا نبتاً حزبياً وما سواهما يغدو "منشقاً"، معتبراً أن هذه الظاهرة موجودة في بعض المجتمعات العربية ولكن بتفاوت ملحوظ بين البلدان.

وتابع الألمعي: ومع هذا فإنّ المبدعين في ثقافتنا، غالباً ما يتعرضون لحملات الإقصاء والتحريض عليهم، وتغدو نخبويّة منتجي الأفكار، والفنون، أضعف وتحلّ بدلاً عنها نخب مستجيبة لشروط الأحاديّة المتفوّقة بقوّة الإسناد الأيديولوجي، فلهذه الطبقة بدائلها الجاهزة من كوادرها، وتغطي ضعفها بقوّتها، وتوجّه الرأي العام باتجاه رفض الثقافة الحرّة.

ويلخص الألمعي رؤيته حول النخبوية الثقافية بالقول "ما دام النتاج المعرفي والإبداعي يحتمل التجريم، ويجد من يستجيب لشروطه، ويغيّب المثقف الحرّ عن بيئته الطبيعيّة، فلن تتبلور نخب فاعلة ولن يكون الإبداع إلاّ تعبيراً دائماً عن الرفض، والمبدع الذي يبدأ بريئاً ومقبلاً بشغف على تدشين مشروعه الإنساني، ما يلبث أن يصطدم بواقع يحيله إلى (منشق)، أو يتنازل عن شروط حريّته وتبعاً لذلك جوهر إبداعه ودوره الإنساني".

أما الناقد محمد العباس فيشير إلى أنه لا بد أولاً من التفريق بين النخبة المثقفة التي تتعاطى الأدب والإبداع كخيار حياتي وبين النخب الثقافية المعروفة بـ "الأنتلجنسيا" التي تقوم بدور طليعي في الحياة بشكل عام، مضيفا أنه على افتراض أن الحديث يتمحور حول الفئة الأخيرة، فلا بد من فحص حقيقة تلك المقولات التي تبالغ بوجود عوازل ما بين النخب والقاعدة الاجتماعية، فالنبوءات مثلاً هي أفكار طليعية في الأساس، ومنقلبة بالضرورة على الاعتيادي المكرس في نفوس ووعي البشر، ولكنها استقرت في وجدان الناس وتحولت إلى طباع وسلوك، لأنها وجدت فرصة الترجمة في أشخاص يمثلون على الفكر المتقدم، ليس بالتبسيط كما قد يعتقد، ولكن بإيجاد طريقة للممارسة، فيما يتعلق بالثقافة، بمعناها الوظيفي الشامل، أي ذلك الهدير القادم من أعماق التاريخ.

أما الحديث عن النصوص الإبداعية، فهي عنوان - كما يرى العباس - يختص بفئة وليس نخبة، مشيراً إلى أنها ظاهرة عالمية تاريخية لا تقتصر على جماعة أو مكان أو ثقافة بعينها، ولذلك أقرت ثقافة ما بعد الحداثة كل أنواع التعبير الفني، بما في ذلك الثقافة الشعبية وصولاً إلى السوقي.

ويعتقد العباس أن تعاطي المؤسسات الكبرى مع الثقافة كمنتج إستراتيجي هو الذي أدى إلى تآكل الفارق بين النخبوي والشعبي، بعد سقوط ثقافة الصالون، حيث يشهد مفهوم الثقافة تحولات تتجاوز فكرة العادات والتقاليد والموروثات إلى صيغة التنوع والتعدد والتشظي، مع الإقرار بأهمية التماس مع لغة العصر ومزاج اللحظة، وهي فكرة تبدو على درجة من الوضوح في الأغنية تحديداً.

ويضيف أن ما قيل عن نهاية المثقف هي مقولات ما زالت تخضع للاختبار بشكل يومي، وحتى هذه اللحظة ما زال المثقف بمعناها النخبوي مطلباً في كل الدوائر التي تسعى للسيطرة، حتى في السياسة التي تعني فن إدارة أحوال الناس، والتي لا غنى فيها للساسة عن المثقفين.

ويتصور العباس أن كل ما يستهلك اليوم كمادة مقروءة أو مسموعة كان يشار إليه في لحظة ما كفكرة نخبوية منذورة لفئة، فأعمال نجيب محفوظ مثلاً مع ما فيها من شطحات وجودية موجودة في متناول الإنسان العادي هي فكرة كمادة فلمية أو قابلة للقراءة.

كما أن أغلب الروايات مثلاً تم تحويلها إلى أفلام من خلال عرض مستواها الحكائي مع ملامسة معقولة لتداعياتها الفلسفية والفكرية كرواية "اسم الوردة" لإمبرتو إيكو، ورواية "الأدب" لزوسكند.