بين هذا وذاك ظهر حديثا ما يُعرف بعلم النفس الإيجابي «Positive Psychology» والذي غير مسار علم النفس من التركيز على الجانب المرضي للنفس البشرية إلى الجانب الإيجابي، الذي استودعه الله في كل نفس، هذا البعد الإيجابي في النفس البشرية أُهمل كثيرا ولم يتم التركيز عليه، والنتيجة أن السواد الأعظم من الناس يعيش حياة هامشية لا معنى لها، صحيح أنه ليس بمريض نفسي ولكن حياته روتينية مُملة، لو «نبشت» في ثناياه قليلا لرأيت العجب من الإحباط والتشاؤم والسوداوية والتركيز على الوجه المُظلم للحياة، والحياة تتقلب ولا ضامن لوجهها البراق، ويلتقط كل ما هو سيئ ولديه القدرة الخارقة في تجيير الأحداث العادية أو حتى الجميلة لتكن قاتمة، والبحث عن الأدلة التي تسند هذه النظرة السوداوية ولو كانت في الصين لجلبها، والدليل لو أن أحدنا ضحك أو استمتع قال في نفسه ولمن حوله «كفاني الله شر هذا الضحك والاستمتاع؟» هنا تهيئة نفسية وإعداد مُبكر لنشأة المشاكل والاضطرابات النفسية، هناك من لا يعرف البعد الإيجابي في نفسه، وهناك من بعده الإيجابي مدفون تحت رمال فكره المشوه، وهناك من يُنكر هذا البعد ليقول إن الحياة صعبة ولا مجال فيها للمتعة حتى متعة الغرائز الفطرية التي حبانا الله إياها للمتعة الحياتية لا يستمتع بها ويُجيرها لشأن وظيفي حياتي آخر، لتمت المتعة، بربك كيف يُسعد من هذا ديدنه؟ أدرك عالم النفس الأمريكي الشهير مارتن سيلجمان «Martin Selgiman» هذا البعد، وترك مجاله الرئيسي في علم النفس السريري ليتجه لعلم النفس الإيجابي الصانع للحياة وقاعدة الجودة والمُرشد للسعادة والمُحافظ عليها. أهم ما نادى به سيلجمان هو أن ديننا الحنيف هو دين السعادة وقاعدة الجودة وصانع الحياة والآخرة، ولكن المُؤسف له أنه أصبح لدى البعض مُجرد طقوس يعملون بها ليل نهار، خارجة عن الهدف السامي وراءها، ولربما اجتز البعض منهم آيات قرآنية كريمة وأحاديث نبوية شريفة في غير محلها، ليصنع تعاسة للناس باسم الدين، والدين براء من الجميع، فيكفينا فضل الله ورحمته لنفرح خير مما نجمع ونُحسن الظن بالله فهو وعدنا، والله لا يُخلف الميعاد بأن ظننا فيه جل في علاه هو مُحقق لنا بكفالة الرحمن الرحيم.
تحقيق السعادة وتحسين جودة الحياة ليسا بالأمر الساهل وإنما هما صناعة، والصناعة دائما تحتوي على مواد خام ومصنع وخط إنتاج ومُراقبة وغرفة تحكم، وقبل ذلك معرفة مُواصفات المُنتج قبل إنتاجه والمُحافظة على جودته والاستمرار في تحسين المُنتج، فلا ركود ليأسن المُنتج وتظهر ريحته، السعادة وتحسين جودة الحياة، كلاهما صناعة، لا يطرقان الباب، لا يباعان ولا يشتريان في السوق ولا يهديان وإنما يأتيان من خلال برامج تعليمية وتنموية وتدريبية وتطويرية، الجميع في جعبة علم النفس الإيجابي وتطبيقاته، صانع السعادة ومُحسن جودة الحياة، فهل رأيتم شخصا يسعي للبحث عن السعادة وتحسين جودة الحياة؟ هل رأيتم مُختصين نفسيين بدرجة أخصائي واستشاري صناعة سعادة وجودة حياة؟ هل رأيتم مراكز تخصصية تُعنى بالسعادة وتحسين جودة الحياة؟ هل رأيتم برامج أسرية ومُجتمعية تُعنى بالسعادة وجودة الحياة؟ هل رأيتم ضمن المناهج التعليمية والتدريبية ما يُرشد للسعادة وتحسين جودة الحياة؟ هل رأيتم ضمن أماكن العمل في شتى المجالات ما يُشير للسعادة وجودة الحياة؟
تأتي الرؤية المباركة 2030 لهذا البلد العظيم، وهي تحمل بشائر الخير وفي طياتها مشروع وطني يُعنى بتحسين جودة الحياة للجميع، والذي سوف يرسم الطريق بمنهجية علمية نحو عالم السعادة وتحقيق جودة الحياة في الشق المُؤسساتي الذي ترعاه الدولة حفظها الله، والشق الفردي والأسري والمُجتمعي، ننطلق جميعا لنقول إن الحياة جودة والجودة تُصنع.