تنامي العنف في سورية وشراسة النظام ضد المواطنين والمراوغة في تنفيذ المبادرات الإقليمية والدولية كلها إشارات تؤكد اتجاه الأحداث إلى نهاية هذا النظام رغم محاولة الحلفاء لإبعاد تلك النهاية. ونظرة سريعة على "خريطة" المواقف الإقليمية والدولية تكشف لنا: أن دول مجلس التعاون الخليجي ماضية، بعزم وإصرار، في التحرك ضد هذا النظام بعد أن فقدت الأمل في رفع مظالمه عن الشعب السوري الرافض لبقائه. وتركيا دخلت دائرة "اللاعودة" في مشروع إسقاطه، ويلوح في الأفق إمكانية استخدام عضويتها في حلف الناتو لإيجاد "ذريعة قانونية" تتيح لأعضاء الحلف التدخل الفاعل دون مخالفة النظام الدولي. نعم أصدقاء النظام الدوليون: روسيا والصين ما يزالون "صامدين" لكن هذا الصمود لن يكون دائما إذا تحركت لعبة المصالح والمكافآت وارتفعت فاتورة هذا الصمود، وبالتالي فإن فترة الاحتماء في دفء الحلفاء والأصدقاء بدأت تضيق. ولا يبقى إلا أعضاء "نادي المصير المشترك": إيران والنظام الطائفي في العراق والنظام السوري وحزب الله في لبنان وبعض المستفيدين أو المتعاطفين من الحركات والأحزاب الفئوية والمجموعات الطائفية في المنطقة العربية على اختلاف في الدرجة والارتباط في المصالح.
تأمل هذه "الخريطة" ومكوناتها ومقابلتها مع الخطاب الإيراني المعلن والخفي قد يساعد على "قراءة" بعض الإشارات والتحركات الصادرة من طهران في سياق سياساتها لحماية مصالحها وضمان تصاعد تمددها وحضورها في المنطقة. وهنا يبرز سؤال: هل التحركات الإيرانية الأخيرة في الخليج تدخل في جهودها لتخفيف الضغط على نظام الأسد؟ المنطق وتقدير المصالح يقولان إن إيران ستظل تدعم أسباب مساندة أصدقائها الدوليين، روسيا والصين، وتؤكد رغبتها وقدرتها على تقديم المزيد، وستعمل على أن تربط مصالحهم الاستراتيجية معها وأن تؤكد أن تراجعهم أو ضعفهم أمام الإغراءات أو الابتزازات الغربية ليسا في صالح تأثيرهم ومصالحهم الاستراتيجية، وستبقى تخوف وتحفز "أعضاء نادي المصير المشترك" بأن أي تراجع أو تخاذل أو نظرة منصفة للطرف الآخر هي بداية الانحدار والسقوط وبالتالي تفويت الفرصة التاريخية التي تلوح في الأفق. وستظل "تنفخ في نيران" المجموعات الطائفية المرتبطة بها وتحذرها من المهادنة أو التراخي أو الاعتقاد بأن الالتفات إلى الجبهات الداخلية في أوطانها هو ما يحقق مصالحها وطموحاتها. هذا منطقي ومفهوم ومتوقع، ورسائل وإشارات الساسة الإيرانيين تؤكده كل يوم، ولا يتوقع أن تقلل من حماسها ومضيها في هذا الاتجاه، لكن إذا بدا أن هذه "الأوراق" تفقد قيمتها على المستوى السياسي وأفرزت الأحداث على الأرض واقعا جديدا يهدد بقاء النظام في دمشق ويمنح المعارضة مكاسب عملية، فماذا ستفعل إيران؟
يبدو أن العلاقة الخليجية الإيرانية مرشحة لتكون "مسرحاً" لمحاولات إيران التخفيف عن حليفها في دمشق. ومن الشواهد والإشارات الدالة على ذلك بعض الأحداث والتحركات والحملات الإعلامية، ففي الأسابيع الماضية تحركت إيران لإثارة نزاعها مع دولة الإمارات حين قام الرئيس إيراني أحمدي نجاد بزيارة الجزر المتنازع عليها ليثير حساسية الخليجيين وليرسل "إشارات استفزاز" للمجتمع الدولي بأنه قادر على إحداث تهديدات حقيقية على مصالح الدول الكبرى في المنطقة.. وشنت وسائل الإعلام الإيرانية حملة على قطر وروجت لإشاعات تتحدث عن عدم استقرارها وتجدد نزاع داخل الأسرة الحاكمة. ومعلوم أن قطر في مقدمة الدول التي تناهض نظام بشار ولا تخفي رغبتها في إزالته ودعوتها العلنية إلى دعم الشعب السوري بالسلاح حتى يمكن إسقاط النظام، وهجوم إيران عليها يمكن فهمه من هذه الزاوية رغم المصالح المشتركة التي جمعت بين الدوحة وطهران طوال الفترة الماضية، والتي تشير إلى رغبة الطرفين في الاحتفاظ بالحد الأدنى منها لحسابات أخرى ليس لها علاقة بالقضية السورية بشكل مباشر بل تتعلق بقضايا أخرى بعضها إقليمي وبعضها دولي. فهل ستلعب إيران بورقة خلافاتها مع دول مجلس التعاون من أجل إيقاف حماسها لإسقاط نظام بشار؟ وإلى أي مدى ستمضي إيران في هذا الاتجاه؟ وما هي الأوراق القابلة للاستخدام في هذا التوقيت ويتوقع أن تكون لها قيمة ونجاعة؟
إيران كانت دائماً "تلوح" بقدرتها على إلحاق الضرر بمصالح الدول الكبرى في المنطقة، وتجاوزت مرات عديدة مستوى التلويح إلى الفعل عندما هاجمت ناقلات النفط الكويتية في الخليج في التسعينات وما ترتب على ذلك من تدخل الدول الكبرى بالصيغ المختلفة التي باتت معروفة للجميع.. وكانت ورقة "تهييج" بعض الأتباع لإزعاج الجبهات الداخلية لدول المنطقة، تستخدم من وقت لآخر بدرجات مختلفة، وفي مناطق متباينة. لكن هذه الورقة لكثرة استخدامها وانكشاف بعض أهدافها بدأت تفقد قيمتها حين أدرك المواطنون الخليجيون المتأثرون بالدعاية الإيرانية أنها لا تتحمس لمطالبهم إلا عندما تلتقي أهدافها ومصالحها وبالتالي لم يعد الكثيرون يتفاعلون مع رغباتها و"توقيت" تحركاتها ومع ذلك فإن هذه الورقة ما زال لها اعتبارها في حسابات إزعاج الخصوم.
والذي يبدو في الأفق إن إيران تريد أن "تحيي" الجبهة الخليجية وتسخينها والدفع بتوترها إلى المدى الذي يخلق "حالة" من "الإزعاج" يدعو بعض الخليجيين لإعادة حساباته حول ما يجري على الساحة السورية.. والأمل في تحقيق هذا الهدف يمكن أن يغري إيران باستخدام أكثر من ورقة في هذا التوقيت لزيادة فاعلية الضغط والتسريع بخطواته.. فالخناق يضيق على نظام دمشق الذي يمثل "قنطرة" مهمة في الجسر الممتد من طهران إلى جنوب لبنان، وإذا "انكسرت" هذه القنطرة فإن تداعياتها لن تقف عند خسارة الحليف في دمشق.