يقول قاضي المحكمة لأحد الحكام العرب: أُسكت.. احترم القانون، أنت هنا في محكمة، ولا أسمح لك بالخطابات السياسية، هنا قانون.. وليس سياسة.. احترم القانون، فيرد الحاكم العربي وهو في قفص الاتهام: كيف لا تسمح لي بالحديث في السياسة، وتحتج عليَّ بالقانون، وأنت تعلم أنه لولا السياسة لما كنت هنا على كرسيك تحاكم رئيس دولة عربية.
عجبا لهذا الرئيس!! كيف غفل عن هذه الحجة قبل أن يصل لحبل المشنقة في عيد الأضحى؟!
هل بعد هذا الحوار العابر في جلسة محاكمة لرئيس دولة، نصل إلى نتيجة نستقرئ بها بقية الوضع العربي؟! وهل نؤمن بكل عقلانية، أن السياسة عندنا هي مراوغة الواقع بقانون الغلبة والتسلط!! ولهذا نسمع من بعض الرادحين مصطلح (البغاء السياسي) نتيجة لهذه التناقضات الفجة التي تملأ الواقع السياسي.
تحلم طالبان بدولة إسلامية، وفق قانونها الوجداني الذي يفرض عليها، أن ترفع سبابة اليد اليمنى بالشهادتين، ولكن واقعها السياسي يفرض عليها أن تقبض باليد اليسرى قيمة الأفيون لتشتري به السلاح! ومثلها السودان، وإيران، وغيرهما من هواة اللعبة الثيوقراطية.
مصر... وقبل أن أحكي عن مصر، فلا بد أن نعرف سر ربط مصر ـ عند التعريف بها ـ بسؤال: أي مصر تقصد؟ هل تقصد: مصر عبدالناصر، أو مصر السادات، أم مصر مبارك؟! وقبل أن أجيب أقول: إن سر السؤال يؤكد أن مصر طيلة عصرها الحديث وهي تعيش (إدارة الأفراد) رغم أحزابها العتيدة، ومعارضتها المعتقة، فهل سيسمح لها مستقبلها، وأملنا العظيم بتاريخها العريق أن تعيش (إدارة المؤسسات)؟
أعود فأقول: إن مصر (الضباط) من عبدالناصر حتى حسني عاشت كما يليق بأي نفسٍ عسكرية، لبست بدلة سياسية، وفي القراءة السيميائية لتحولات نشيدها الوطني خلال هذه الفترات (الزعاموية)، ما ينبئ عن إشكالات (إدارة الأفراد)، فمن رئيس يرى أنه الشعب، إلى رئيس يرى أنه الأرض، وصولاً إلى رئيس رأى نفسه الشعب والأرض، فلا ظهراً أبقى، ولا أرضاً قطع، رغم الإحصائيات الإيجابية للنمو الاقتصادي المصري التي كان يعرضها الابن ـ الوريث المحتمل لعرش مصر ـ على والده ويسوّقها الإعلام المصري لشعبه، لتعود إلى ذاكرتنا، أزمة إحسان نراغي كمستشار الشاه الإيراني عندما يحكي عن معهده للدراسات ومهمته للشروع في سياسة علمية وطنية، فيقول: (حتى تعييني؛ لم يحصل شيء من هذا القبيل لسبب بسيط، وهو أن كل نشاط في هذا المجال كان يتعلق بتخصيصات تمنحها السلطات العليا بطريقة سرية تقريبا، لصالح سياسة شاملة للإنماء الاقتصادي، نظرا لهذه الحالة، شكلت فريق عمل دائما، مؤلفا من خمسة عشر باحثا عليما بالتطور التكنولوجي في إيران.... أجرينا تحقيقا عن الاتفاقات المعقودة مع الشركات المتعددة الجنسيات، ولكننا قمنا به بتكتم كبير، لأن وراء كل اتفاقية يرتسم ظل أمير أو أميرة أو قريب أو قريبة من أقرباء الملك، لكننا استطعنا أن نضع في هذا الصدد لائحة واضحة) لتكتشف مصر متأخرة أن حتى اتفاقيتها مع العدو الصهيوني في تصدير الغاز كانت على أكتاف شعبها، في سبيل (دوام الحال) للزعيم، فكيف جهل العسكر أن هذا (من المحال)!
بعد هذا الاستعراض الموجز والعابر، هل وصلنا لشيء من التساؤل حول معنى (الانسداد السياسي) في وطننا العربي؟ فقبل ما يوصف بربيع الثورات كان لا يوجد شيء اسمه (انسداد سياسي)، ولا يوجد شيء اسمه (احتقان شعبي) كانت المسألة في نظر حكومة مبارك (شوية عيال، هايفين) وفي ليبيا ليسوا سوى (جرذان)، أما تونس فقد اعترف متأخرا بقوله: (فهمتكم.. فهمتكم)، وكل زعيم قادم له لثغته الخاصة التي يبرر بها عماه، وفقد حواسه السياسية، فمهما أزكمت دماء الشعب أنفه، فلن يأنف من تسليك (انسداده السياسي) بطائفية فجة، أو دعاوى إرهابية مبتذلة، ولا بأس ببعض الدبابات في الشوارع والميادين، أو بعض القصف لحي هنا ومدينة هناك.
تذكروا دائما في وطننا العربي أن السياسة أولا والسياسة أخيرا، السياسة هي المبتدأ والخبر، أما القانون فيقف مع من يستطيع فرض شروطه على أرض الواقع، إما بقوة داخلية، أو خارجية، لنجد المحاكمة الدولية للزعيم الخاسر، أو المحاكمة الوطنية للمناضل البائس! وبين التسلط السياسي والنضال الوطني يقف القانون صارخا يحكي ميلاده عند بني يعرب: السياسة أمي، كانت بغيَّاً بين الشعوب البدائية، ثم أنجبتني، فكنت في حضن شيخ القبيلة، وعندما كبرت أرسلتني أمي للمعبد، ليعمدني الكاهن بالقداسة، فكنت شِرعة المنتصر، وتلمود الأقوى.
هذه هي حقيقة القانون عندما يخرج من رحم السياسة لأب الغلبة والتسلط (إما بعصبية قبلية أو دينية أو بهما معا، ونضيف لهما الفاشية الحزبية)، فأنى لهم أن يَقفُوا/يتبعوا (الدستور)؟! إذ إنه في ملة بعضهم تهمة في حق من يطلبه؟! عدا أن يدركوا (الدستور) كأبٍ شرعي للقانون!
خطأ المناضلين أن يكرروا أخطاء سابقيهم، فتغويهم السياسة، لتلذ لهم (قوانين الغلبة السياسية)، بدلا من (قوانين الاستفتاء الدستورية) ولنا في الأمم من حولنا عظة وعبرة، ولهذا (يحذر إعلان الاستقلال الأميركي، من أن كل التجارب السابقة، أظهرت أن البشرية تعتاد على المعاناة، أكثر من تصويب مسارها، من خلال إلغاء كل أشكال المعاناة، التي اعتادوا عليها) وما أكثر المعاناة، وأكثر منها الذين اعتادوا عليها، فكيف بنا وبها، وبيننا من يمجدها ويتغنى بها؟!