وسألني: هل قرأت اليوم؟ وماذا قرأت؟
لقد قرأت، وأنت تعرف أني لا بد أن أقرأ فالكتاب ليس هو الصاحب المطيع فقط رغم احترامنا لرأي المتنبئ وإنما هو أكثر من صاحب، هو أستاذ!
أستاذ يعلمني ما فاتني في سن شبابي، الظروف بحرمان المعرفة، فلم تكن لنا حيلة في أن نجلس طوابير المحاضرات، وكان من حسن الحظ أن جيلنا لأنفسنا الأستاذ المختص يعلمنا ما نجهل بدراهم معدودات. هذا الأستاذ هو الكتاب، كنت أقرأ لأتعلم وأصبحت اليوم أقرأ لئلا أتألم.. فأنا دائما مع أستاذي المقيم.
- قال: كيف تقرأ؟
- قلت: لا أحصر نفسي في كتاب واحد إلا نادرا حينما يعجبني طعمه أكاد ألتهمه دون مشهيات لأن فيه كل شيء يغريك بأن تقرأه.
أقرأ أكثر من كتاب في يوم واحد، فصلا من هذا وفصلا من ذاك، فالكتاب مائدة لمعدة الفكر، يحسن في هذه المائدة التنويع كما لا يحسن في عصر السمنة والاسترخاء التنويع على المائدة.. مائدة التفكير في المعدة، فقد قرأت في هذا اليوم كتابا أكملته في ليلة هو «وكانت الصحة.. هي الثمن» لأنيس منصور أعارنيه الصديق الابن عبدالله جفري.. أحسبه قد أكرمني فلم يقرأه قبلي.. قد يكون فعل ذلك ليعطيني رأيي فيه عله يقرأه على صورة أخرى.. الصورة الأولى أنه لأنيس منصور والصورة الثانية أنه يعرف رأيي فيه.. ولا أتهمه بأنه أراد الدعاية للكتاب والكاتب.
أعجبني هذا الكتاب لأنه شرح - بتشديد الراء - لي على طاولة كان سلاح الطبيب فيها القلم مبضعا والحرف مقصا والفكر روشتة تاريخ.
لقد عالج في نفسي هذا الكتاب مرضا هو أنقص فيما نعلمه عن هؤلاء الذين ملأوا الدنيا صيتا وكربا وحربا وسلاماً..
فالحرب هي صانعة السلام، والسلام كثيرا ما يصنع الحرب. وفي نفس الليلة تذكرت كتاباً تباعدت بيني وبينه ظروف القراءة، قرأته أكثر من مرة منجما في سنوات متتالية ذلك هو «البؤساء» لفيكتور هيجو.. وأشهدكم على نفسي أني فهمته الآن أكثر مما قرأته من قبل فقد تعلمت أن قراءة كتاب لمرة واحدة قد تحرمك من فهم واسع.. هذا الكتاب فيه من الخطورة الشيء الكثير.. وفيه من المخاطرات الشيء الجميل. خرجت منه بمجنحات أحفظها لعلي أجدها بضاعة أتاجر بها حين استشهد بالمجنحات، فمثلا هذه المجنحة عن الحب إنه يقول: «الحب حماقة الإنسان وحكمة الله» كم هي الظلال في هذه الكلمة؟
أولها هذا التفريق بين التعامل في الحب وبين علم الحب.. فالحب قدر وغريزة وإلحاح ونماء، ولكن تعامل الإنسان معه كثيرا ما يكون حماقة، حين يسخر الإنسان هذا الحب تشهٍ يحيك من روحانيته ومن تألقه إلى مطية يركبها الرجال في شهواتهم، وتعيش الأنثى فاقدة الرحمة حين ينقلب الحب في وجدانها إلى انتقام.. فالأنثى لن تكره.. ولكنها حين تخسر حبها تنتقم.. وبحكم الحرفة أخذت أقرأ فصولها من القاضي عياض عن رجل مالك بن أنس. أي أني بين الهواية والاحتراف لا أقترف إهمال الكتاب.. فشيء للحرفة وشيء للهواية.
إن الذين لا يقرؤون يخرجون أنفسهم من هذا العصر، فلعلي لم أكن خاطئاً حين أسمي هذا العصر، عصر القراءة.. عصر الكتاب. إن الحرمان من الكتاب سواء أكان طواعية أو قسرا يخرج المحرومين من هذا العصر. إن سلوك الكاتب لا يمنعك أن تقرأ كتابا، لست -كقارئ- مسؤولا عن سلوك المؤلف، فنحن نقرأ لغير المسلمين والصادقين والكاذبين، ولا ننصب من أنفسنا كهنوتا يكيل السباب على الكاتبين من أجل سلوكهم.
لا أريد أن أضرب أمثلة.. فالمعنى في بطن الشاعر.