حدَّثني عزيز مُقرَّب عن زميل له اتصل به بعد طول غياب، وكان مما دار في حديثهما أن قال له الزميل (مُمازحاً):

كنت أكثرنا جداً وطموحاً، وعلى الرغم من هذا لم تصل!

مع العلم قرائي الكرام أن مُقرَّبي هذا يحمل شهادات عُليا، ومتميز في عمله، على الرغم مما يتطلبه من جهد ووقت وخبرة واسعة، ليس بشهادتي، بل بشهادة المتعاملين معه، وبدلالة ما يُنجزه، هذا غير ما يمتلكه من مواهب أخرى، بعيدة كل البُعد عن مجال تخصصه.


الحقيقة أن عبارة زميله استوقفتني كثيراً، تأملتها بتعجب وحيرة! فكيف بلغت به سطحية الوعي أن يُقيِّم شخصاً بالوصول إلى مراكز أو مناصب عُليا، وأنه في حالة لم يحقق ذلك، فإن جُهده ومُثابرته وطموحه، ذهبت أدراج التمني، وإن بلغ من النجاحات ما بلغ!

في حقيقة الأمر - لو سلَّمنا - أن هناك جزءاً فارغاً من الكأس، فإنه لم ينظر إليه أيضاً، لو نظر لوجده أيضاً مملوءاً بموهبة، أو ميول علمية أو فنية، أو تميز إضافي.

كيف لم يفكر بطريقة أخرى أصح وأكثر وعياً، وهي أن نجاح الإنسان لا يُقاس بمدى نيله لمنصب معين، بل بنجاحه في المجال الذي اختاره، وتحقيق أكبر قدر من الإنجازات فيه.

إن رأيه ذاك وإن بلغ من انخفاض الإدراك ما بلغ، فإنه ألهمني هذا المقال، ودلَّني على شريحة من التفكير ضعيفة جداً على الرغم مما يحمله أصحابها من شهادات، فشكراً له.

بالمناسبة، عندما سُئل ذلك الشخص مرة على حسابه في إحدى منصات التواصل، ما أغلى أمنياتك؟ أجاب:

مصافحة فلان (مشهور من المشاهير)، فإذا كانت هذه همتك، وهذا أغلى أحلامك، لا توجه سهام اللوم ولا سياط التثبيط للآخرين، ولا تقلل من شأن (وصولهم)، وقد حققوا من النجاح ما حققوا، وعملوا كأفضل ما يكون، قدوة ومُلهمين لغيرهم، وما زالوا يطمحون لمصافحة درجات عُليا من النجاح، لا من (أيدي المشاهير)، وإلى جانب هذا، لم يغفلوا عن مواهبهم، بل صقلوها، ونافسوا بها جنباً إلى جنب مع أدوارهم الأساسية، دون أن يطغى جانب على آخر.

لا تُعِب عليهم عدم وصولهم إلى مناصب عُليا، أو مراكز حساسة، فهذه الأماكن محكومة في كل زمان ومكان بأشياء ليس المقام هنا مقام ذكرها، لكنها لا تخفى على كل (بالغ عاقل) فكيف (بالواعي المثقف)؟!

في حقيقة الأمر إن الموضوع بحاجة إلى إعادة برمجة الوعي، فلا شك أن خطأ كهذا متصل بدرجة الوعي، والتي لا علاقة لها بالشهادات، فكم من حاصل على شهادة عُليا، وعيُه ما زال (بكراتينه)، إنما كان يحفظ وينسخ مادة دراسته لينجح وينال الشهادة العُليا وحسب.

وإنني أتساءل: كم من أفكار في مجتمعنا ما زالت (بكراتينها) يا ترى؟! لعلي أبحث في ذلك لاحقاً.

ختاماً أقول لكل ناجح طموح، إن المركز الذي يناسبك ليس هو الذي يتوقعه الآخرون لك، ولا حتى الذي تتوقعه أنت لنفسك، بل هو حيث تنقطع بك أنفاس الطموح، مركزك الحقيقي هو ما تبلغه بسعيك الشريف، وعلمك النزيه أياً كان، فلا تؤثر فيك سلباً تلك الأفكار النيئة. وإن من سار على الدرب وصل إلى حيث ينتهي به نصيبه من الدنيا، لا إلى حيث يتوقع الناس.. ودُمتم جميعاً بنجاحات لا تنتهي.