تاريخياً الموجة الثانية كانت حاضرة ولم تكن ضرباً من الخيال، ولعل أقربها عهداً حدثت أثناء جائحة الإنفلونزا الإسبانية 1918 - 1919، التي أودت بحياة الملايين آنذاك، بدأت الحالات وازدادت بشكل كبير، ثم انخفضت مع حلول الصيف، واعتقد الناس حينها أن الخطر قد زال، وعادوا يمارسون حياتهم كما اعتادوا قبل الجائحة، ولكنها لم تلبث إلا وعادت أقوى وأشد فتكاً مع حلول الخريف، صنفت على أثرها جائحة الإنفلونزا الإسبانية كأعظم الجوائح في تاريخ أوبئة العصر الحديث.
اختلف المختصون في تعريف الموجة الثانية للوباء، ولعل أبرز ما يمكن به وصفها هو الانخفاض الكبير لحالات الإصابة، والذي يصعب من خلاله ملاحظة الحالات في المجتمع، يتبعه تصاعد سريع وارتفاع حاد وكبير جداً، وعلى الأغلب تكون العدوى أسرع انتشاراً، وربما أشد فتكاً من الموجة الأولى للوباء، وأسباب حدوثها مختلفة، بعضها يتعلق بخصائص الفيروس، فبعض الفيروسات سريعة التحول والتحور، ولها أنماط موسمية كفيروس الإنفلونزا، وهناك أسباب تتعلق بجهود السيطرة على الوباء والحد من انتشاره، فضعف قدرات الفحص والعزل والتتبع، من الممكن أن تجعل الوباء ينتشر بسرعة يصعب معها السيطرة عليه، وهناك أيضاً أسباب تتعلق بالالتزام المجتمعي بالإجراءات الاحترازية الوقائية، فالتراخي بالتأكيد سيتسبب في زيادة الحالات، وربما حدوث الموجة الثانية بعد السيطرة على الوباء .
لعل ما يحدث في أغلب دول العالم، التي زادت فيها أعداد الحالات بشكل كبير، يمكن تفسيره على الأرجح كقمة ثانية للموجة الأولى، وذلك لأن الأعداد في تلك الدول لم تنخفض انخفاضا كبيراً منذ بداية الجائحة، ومع تطور قدرات الفحص السريع لبداية الجائحة، ازداد اكتشاف الحالات، والتي ربما في غالبيتها بلا أعراض أو بأعراض خفيفة، وكذلك عند النظر للمؤشرات الأخرى كأعداد الوفيات وأعداد الحالات الحرجة، ونسب إشغال أسرة العناية الحرجة، نلحظ أن المؤشرات تحسنت عما كانت عليه بداية الأزمة، ولكن هذا لا يعني أن حدوث الموجة الثانية الأقوى والأشد غير ممكن، بل ربما تكون القمة الثانية بداية لموجة ثانية.
ولله الحمد والمنة مؤشرات الوباء في مملكتنا الحبيبة مطمئنة في مجملها، فأعداد الحالات الحرجة في تناقص، وحالات التعافي وصلت لمستويات عالية، وأعداد الوفيات بسبب الإصابة بكوفيد - 19 في تناقص مستمر، وأعداد الإصابات برغم تذبذبها تبقى تحت السيطرة وبذلك يزيد من مسؤوليتنا تجاه وطننا ومجتمعنا، وبالتكاتف والصبر على متابعة تطبيق الإجراءات الوقائية، خصوصاً لبس الكمامة وتكرار تعقيم وغسل اليدين، والمحافظة على التباعد والمسافة الآمنة، والاستفادة من خدمات الفحص في حال المخالطة أو ظهور الأعراض، نقلل فرص ظهور موجة أو قمة ثانية على حدٍ سواء !
لعله من الصعب أن نتحمل الالتزام بالإجراءات الوقائية، ولكن الأصعب أن نتحمل النتائج المترتبة عن موجة ثانية.