لا زالت ثقافة استخدام الدواء مُسيطرة لدى العامة والكثير من المُمارسين وصناع القرار الصحي، ولا غبار على استخدام الدواء وهو مطلوب وأساسي، ولكن يجب توافقه والمُمارسة المُثبتة بالبراهين العلمية والأدلة العلاجية الإرشادية، ما عدا ذلك فهي مُمارسات شخصية لا تصح.
في زمان ماض كانت كلمة «دواء» تصف قمة حلاة الشيء، فقد كان العم سعيد «رحمه الله» عندما يصف المرق «يقول مُباشرة «دوا» وهذا يعنى قمة لذة المرق، في المُقابل كان الطبيب الحاذق هو من يصرف عددا كبيرا من الأدوية، فيُقال أعطاني «كيس أدوية» والتي تُوحي بتمكنه واكتشافه أكثر من مرض وسخائه في العطاء، هنا إرث حضاري.
أطلقت هيئة الصحة الوطنية البريطانية «NHS» بتوصية من المعهد الوطني للصحة والرعاية المُميزة «NICE» مشروعا وطنيا بتحسين سهولة الوصول للعلاجات النفسية «IAPT» في بريطانيا، نظرا لكون العلاج النفسي المُثبت بالبراهين العلمية الخط الأول لعلاج أكثرية الاضطرابات النفسية شيوعا، ليشمل الأمر إعداد المُختصين فيه وتدريب المزيد من المُختصين النفسيين والأطباء والمُعالجين النفسيين.
يحتاج نظامنا الصحي النفسي سلك نفس مسلك النظام البريطاني ونطمع للمزيد من خلال إتاحة كافة العلاجات النفسية المُثبتة بالبراهين العلمية في جميع مراكز الرعاية الصحية الأساسية، من خلال ما يُعرف بالرعاية المُدمجة Integrative Primary Healthcare لمواجهة القطاع الكبير من الاضطرابات النفسية، والمُفترض علاجها ضمن برامج الرعاية الصحية الأساسية، وعلى رأس القائمة اضطرابات القلق والاكتئاب. يبدو أن هناك برامج مُتناثرة هنا وهناك لتدريب أطباء الرعاية الصحية الأساسية للتعامل مع الاضطرابات النفسية الشائعة من خلال العلاج الدوائي فقط، ورغم أهمية ذلك ولكن العلاجات النفسية هي الخط الأول، من هنا فهناك حاجة لإعادة النظر فيما هو موجود وتوسيع قاعدة إتاحة الرعاية النفسية لتشمل العلاجات النفسية. يمتد الأمر ليشمل خدمات الرعاية النفسية من خلال العيادات والمُستشفيات النفسية والمُغيب عنها العلاج النفسي غالبا، فالمُتاح هو العلاج الدوائي، وأعيد وأزيد وأؤكد أهمية العلاج الدوائي ولكن ليس بمفرده، فالعلاجات النفسية وفقا للمعهد الوطني للصحة والرعاية المُميزة البريطاني «NICE» ومعاهد الصحة القومي الأمريكي «NIH» فإن العلاج النفسي إجباري للاضطرابات النفسية الحدية والمُزمنة، ابتداء من البسيط كالقلق والاكتئاب وصولا للأمراض العقلية الأكثر حدة، فماذا نحن صانعون؟
المخرج بداية في إعداد جيل مهني-نفسي يملك مُقومات وكفاءات العلاجات النفسية من مُختصين وأطباء ومُعالجين نفسيين، وأن يتضمن برنامج إعداد الأطباء النفسيين جرعات كافية من العلاج النفسي تمكنهم من مُمارسته بشكل فعال وآمن، وكذلك إعداد مُختصين نفسيين بتدريب عال في العلاج النفسي، كيف لا؟ والعلاج النفسي المُثبت بالبراهين العلمية خارج من رحم نظرياتهم النفسية والتي حددت الميكانزمات المرضية النفسية وراء كل اضطراب نفسي، وصاغت العلاجات النفسية المُقابلة لتلك الميكانزمات المرضية، مع السعي لمزيد من التوعية النفسية للعامة حول الصحة النفسية عموما، وطرق العلاج والوقاية لمزيد من الوعي النفسي والذي يُساهم في سرعة مُناشدة الخدمة النفسية ونوعيتها وممن تُؤخذ، فهل من المعقول أن إداريا أو مُهندسا أو مُدرسا مُتقاعدا أخذ دورات في البرمجة العصبية وتطوير الذات له الحق في مُمارسة العلاج النفسي؟
في مُقابلة مُتلفزة منذ سنين، شبه ذلك المهني النفسي العلاج الدوائي بالخرسانة للبناء والعلاج النفسي بالتشطيب، فلا تنازل البتة عن مُواصفات الخرسانة، ولكن في عالم التشطيب لك الخيار، فعلى قدر ميزانيتك، قد تشطب بمائة ريال وقد تستهلك ألفا، ولربما سكنت في المنزل قبل اكتمال التشطيب، أتمنى أن مثل هذا التشبيه قد زال ورحل وارتحل برحيل من قاله من صناعة القرار العيادي، لنقول لا يكتمل البناء إلا بمُواصفات خرسانية وتشطيب «ديلوكس»، أزيد هنا وأقول إن التشطيب «العلاج النفسي» أصبح اليوم خرسانة وبمُواصفات ومعايير عالية الجودة تحددها المُمارسة المُثبتة بالبراهين العلمية.
رسالتي هنا أن أرى بحول الله وقوته ثم جهود صناع القرار الصحي -وهم يبذلون جهودا مُوفقة- العلاجات النفسية مُتوافرة في كل قطاع صحي وتعليمي وتنموي-اجتماعي وأماكن عمل الخ.، ومُتاح للجميع بمهنية عالية، لصحة نفسية مُستدامة للجميع.