مع كل ما أفرزته الثورة العلمية والتقنية من إيجابيات، من خلال تقنيات التواصل الرقمي، إلا أنها في ذات الوقت ظلت وسائل ذات تأثير اجتماعي سلبي حقيقي، إذا ما نظرنا إليه من زاوية المنعكسات الاجتماعية السلبية، وكيف يمكن أن تؤدي هذه الظاهرة بتراكم تداعياتها مع الزمن، إلى خلق جيل انعزالي، منكفء على ذاته، بعد أن ضعف هاجسه على التواصل الوجاهي المباشر مع الآخرين، نتيجة انغماسه التام في بيئة التواصل الافتراضي، واستهلاكه جل وقته، وطاقته في الالتصاق بفضائها الوهمي، كبديل للواقع الحقيقي الذي يعيشه في حياته العملية. وهو ما أضعف العلاقات الاجتماعية البينية، التي اعتدنا أن نمارسها في حياتنا اليومية، في أجواء إنسانية طبيعية مباشرة، في العائلة، والمجالس، والدواوين، والمحافل العامة، بل وحتى على قارعة الطريق للمجاملة، في كثير من الأحيان. ناهيك عن خرق كثير من تقاليد الموروث الاجتماعي والديني بالاستخدام غير الرشيد لها، والدخول إلى مواقع تفتقر إلى المعاني العالية، والقيم السامية، وتساهم في هدم تقاليد ذلك الموروث، وتشويه ملامح الهوية، والأصالة.

ولا شك أن ظاهرة العزلة بين الجيل، التي أفرزتها ظاهرة الانغماس الشديد في الواقع الافتراضي، والإدمان على التفاعل معه، كبديل للواقع الحقيقي، بدأت تسلبنا تدريجياً دفء العاطفة الوجداني في العلاقات الاجتماعية، ونخسر بفعلها التواصل الوجاهي المباشر، الذي كان معززا بالمعانقة، والمصافحة، والقبلة، ليقتصر اكتفاؤنا اليوم برسالة بريد إلكتروني، أو رسالة جوال نصية قصيرة، نصوغها بعبارات جامدة مقولبة بنص نمطي، يفتقر لروح المناسبة، لنرسلها بضغطة زر، لكل من هو مسجل في قائمة اتصالنا المخزونة في الحاسوب، أو الهاتف النقال، دون تمييز لحس، وذائقة من نرسلها لهم.

وهكذا فقَدَ كثيرون ممن أدمنوا الانغماس في مواقع التواصل الاجتماعي الافتراضي، روحهم الاجتماعية الاعتيادية، وأصبحوا أشبه بأجزاء صماء من مكونات أجهزة الحواسيب، والهواتف، المعدنية، وبذلك فقدوا قدرتهم على الاستمتاع بالوجود الاجتماعي الحقيقي بين أهلهم، وزملائهم، ومجتمعهم، وخسروا دفء تعبيرات الوجود الإنساني الحقيقي، بعد أن تحولوا إلى ما يشبه الإنسان الآلي، الخالي من المشاعر والعواطف.


ولعلنا الآن وفي ضوء ما تقدم، نجد أنفسنا، أمام ظاهرة تقنية اجتماعية عصرية، شائكة، تربويا وثقافيا، حيث يتباين الموقف منها بين من يقبل التعامل معها بشكل مفتوح، ودون قيود، وبين رافض لها جملة وتفصيلاً، وبين موقف توفيقي، يقبل التعامل معها بترشيد الاستخدام، من خلال الانتفاع من كل ما هو إيجابي منها، ونبذ كل ما هو سلبي.

ولا ريب أن مجرد استنكار استخدام معطيات تقنية الإنترنت وحده، لا يجدي نفعاً، بعد أن ألفها الناس في حياتهم العامة واليومية، وأصبحت جزءاً من ثقافة عصر يستحيل إنكارها. كما أن منع الاستخدام، هو الآخر أمر عقيم وقليل الجدوى، إذ سرعان ما يتسلل المستخدمون بمختلف شرائحهم، إلى المواقع الإلكترونية التي اعتادوا الدخول إليها، بمختلف الوسائل، مما يعني أن الأمر أصبح، وكأنه خارج حدود السيطرة، أو يكاد.

ومن هنا فإن الأمر بات يستوجب التعامل مع هذه الظاهرة، بموضوعية تامة، والعمل على تناولها من جميع جوانبها، بهدف ترشيد الاستخدام في الفضاء الرقمي، من خلال العمل على تربية رصينة مجتمعيا وعائليا، لتحصين الأجيال، ترتكز على نهج رشيد، يستصحب الموروث القيمي الأصيل، ويرفع حس التمييز لديهم، بين الغث والسمين، والإيجابي والسلبي، من مخرجات الاستخدام، ويعمل على ترسيخ ملامح الهوية، ويحمي من الضياع والاستلاب في نفس الوقت.