من أهم الأدوار التي تلعبها التربية في حياة الفرد والجماعة، قدرتها على تشكيل موضوعات النواهي التي لا ترغب في وقوع الفرد فيها على المستوى الديني والاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي، والنَّهي طلب الكف عن الفعل، ويتحقق بشرطين، أن يكون من الأعلى للأدنى، وأن يأتي على سبيل الاستعلاء والإلزام، وله صيغةٌ واحدة وهي المضارع المقرون بلا الناهية، ومن المعاني البلاغية التي يُفيدها النهي: النصح والإرشاد والتوبيخ والتَّحقير والتهديد.

درجت التربية التقليدية في أعلى تجلياتها من الآباء إلى الأبناء أو من المعلمين إلى تلاميذهم، أو من رجال الدين إلى أتباعهم أو من قادة المجتمع إلى أفراده، على تجريد الأدنى من حقه في تقرير وفهم النواهي وتجنب مخاطرها أو الوقوع في أخطائها ومعاصيها، أو في إيذاء النفس أو الخروج عن جادة الصواب، أو في التفريق ما بين ما هو نهي اختياري أو اضطراري، وأن الطلب المنهي عنه محسوم بالبداهة أنه نهي غير قابل لتجاوزه أو الخروج عليه، وأن الناهي من الأعلى أشد حرصا على الأدنى وأنه عاجز عن إدراك أثر النواهي على الفرد والمجتمع.

ومن شدة الولع بالنواهي جاءت الأمثال لتحاكي واقع رغبات نواهي التربية وتأصيل مفاهيمها، فقيل (لا تترك الحبل على الغارب) كناية عن عدم ترك خِطام الناقة على غاربها حتى لا تسرح وتبتعد عن صاحبها فيفقدها، وهو دليل مادي محسوس على تأكيد سلطة الأعلى في النهي أمام ضعف الأدنى في الوعي والإدراك لما هو في مصلحته، وأن هذه السلطة توسعت في دائرة النواهي والتقييد على حساب مساحة حرية الاختيار من متعدد حتى وصلت إلى حد التخمة في نواهيها، وقابلها من الأدنى أعلى درجات التهاون والعناد والتحدي، لاكتشاف تلك النواهي والدخول في عالمها بالتخفي، واستخدام كل الوسائل لاختراق أبوابها المغلقة.


لقد انشغل الآباء في تربيتهم بنهي الأبناء عن منظومة النواهي التي تعلموها من أسلافهم أو من أيديولوجياتهم دون فحص لها ما بين غثها وسمينها، وكرس الخطباء والدُّعاء جل جهودهم بالضغط على الآباء من أجل حماية أبنائهم من الوقوع في المحرمات، واتباع الشهوات وممارسة البدع والأهواء والانجراف وراء الملذات، وكرر المعلمون في توجيهاتهم لتلاميذهم أوامر النهي وأسرفوا فيها وبالغوا في كل صغيرة وكبيرة.

وما زالت النُظم التربوية المتأخرة عن الحداثة ومن يقف خلفها، يعتقد أن لا الناهية بفعلها المجزوم قادرة على إدارة النواهي والحد من تجاوز سُوء أفعالها والدخول في عالمها، والحفاظ على سلامة الأدنى من الانزلاق في أفعالها، وتجاهلت تلك التربية أن تدريب الناشئة على التفكير الناقد من خلال معرفة الافتراضات والتفسير والاستنباط والاستنتاج هو السبيل إلى تعزيز بناء الثقة في الأبناء والمجتمع نحو تحويل نوع سُلطة اللام من النهي إلى النفي، ومن فعل مضارع مجزوم إلى مضارع مرفوع يُنتجه الفرد بوعيه لا بالفرض عليه، ويكتشف مخاطره لا أن يُحذر منه، ويُقرر حاجته لا أن يُجبر عليها. نحن نِتاج تربية وثقافة تقوم على حُب اكتشاف سلوك أفعال النهي أكثر من الابتعاد عنها، وأن الكثير من آلات النهي يجب تحويلها إلى نفي ذاتي، لتكون العبارة (أنا لا أتركُ الحبل على الغارب)، لأنه اكتشف ماذا سيحدث بعدها، وحينها تحمل النتيجة التي سوف تكون خبرة مُدركة لتحويل أفعال النهي إلى النفي الذي يُناسب واقع حركة الفرد ذاته، ويُحاكي ظروفه ويتمايز عن غيره.