لم تستقر أوضاع اليمن على حال، فلا الأزمة السياسية وضعت أوزارها ولا ثوار الساحات أكملوا المشوار، وليس من أدلة قطعية تؤكد بلوغ التسوية الخليجية غايتها النبيلة، وإن كان الواضح منها تقاسم نفوذ وإحياء نهج المحاصصات الوزارية، أسوة بما شهدته البلاد عقب قيام الوحدة، مما يؤكد هيمنة موازين الصراع وقواه التقليدية على حساب قضايا المستقبل وتحدياته وطغيان إرثها على حساب القوى السياسية الجديدة صاحبة المصلحة الحقيقية في التغيير ورسم ملامح المستقبل وتحديد قسماته على صورة أحلامها وتطلعاتها الموؤودة..
وفي بلد تجتاحه تغيرات اجتماعية عميقة، لا من حيث ارتفاع معدلات الكثافة البشرية ولكن لما تفصح عنه الدراسات السكانية من معطيات؛ إذ تفيد استقصاءات الباحثين أن نسبة 70% من إجمالي السكان البالغين هم من الفئات العمرية ما بين 16-30 سنة، وبالنظر إلى التشريعات اليمنية، فإن اكتساب الحق في الممارسة السياسية والمشاركة في الاستحقاقات الانتخابية يبدأ من سن الـ16 من العمر، وتبعاً لذلك يمكن القول إن طبقة الحكم في اليمن لا تمثل شريحة الشباب، كما هو عجزها عن استيعاب أو تفهم خصوصياتهم الحياتية المطبوعة على حب المغامرة واكتشاف الذات والتشبع بقيم العصر وتطوراته المتسارعة على مختلف الصعد.
لم تحاول طبقة الحكم خلال 33 عاماً من النظام السابق وضع معالجات تربوية وثقافية واقتصادية تعوض الأجيال الشابة عن بعض ما لحقها من إجحاف، قدر اهتمامها ببناء أسس تمايز طبقي بين أبنائها الذين يحصلون على مستويات تعليمية متقدمة، ويتم ابتعاثهم إلى أرقى الجامعات والمعاهد الأكاديمية الدولية، مدنيةً وعسكرية، بينما يتلقى أبناء الشعب تعليمهم على يد معلمين غير أكفاء وبمناهج أكثر تخلفاً من الاُمية البدائية.
وفي محـطاته الأخـيرة، كان النظام السابق قد بلغ مرحلة الثقـة في إمكانية إعـلان اليـمن محمية خاصة تعتمد تداول السلطة عن طريق التوريث..
لقد تصور رأس النظام السابق نفسه أذكى من شعبه المستهدف بالجهل، ولعله نظر إلى شجرة العائلة وتأكد أن الثمرة ناضجة والجمهورية المختطفة من أهدافها طيعة في جيبه فدعاه زهوه للاعتقاد بسهولة تمرير هذا التصور على علية القوم، لكنه لم يفلح.. قاومه أقرب الناس إليه، وفي هذه الأثناء لم يكن يسعه غير الذهول، خاصة أن مواقف أنجال الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر- قبيل وعند انضمامهم للثورة وتضحياتهم معها- اتسمت بالعزوف عن محاصصات التوريث.
لقد كان صالح ينتظر منهم لهفاً على السلطة، وهو بطبعه يعرف كيف يداري طموحات الأفراد،
أما وحميد الأحمر ينأى بنفسه مجدداً عن تحويل الثورة إلى مشروع استثماري ويتأفف من الطموحات الفردية المتسرعة فإن الضرورة تجبر الرئيس السابق على إحياء بؤر التوتر، بدءاً من القاعدة وانتهاء بمتطرفي الحراك الجنوبي..
قيل إن الطبع في الإنسان لا يتغير، والرئيس الذي يخلع على نفسه اليوم صفة الزعيم، حكَم اليمن وفق قاعدتين: الأولى سياسية ملخصها (لا تبن دولة تحد من صلاحياتك ولا حزبا ينقلب عليك)، والثانية مؤداها (سيظل العالم بحاجتك ما دمت تنتج بؤر القلق وتستطيع التحكم بها).
وهنا أستطيع القول إن اليمن يواجه مأزقا جديداً يهدد بتقويض التسوية واستدعاء مختلف المآزق القديمة، بما في ذلك إتاحة البلاد لمجاهيل الزمن ومفاجآت رئيسين، أحدهما لم يصدق انتقال مقاليد السلطة إلى يده، فيما يمضي الآخر غير مصدق بما فيه الكفاية خروجه من الحكم، لهذا نسأل: ألم يكن هذا الصدع محل طروحاتنا المبكرة وتكهناتنا المثارة عبر وسائل إعلامية واسعة الانتشار وفي مقدمها صحيفة الوطن؟
إذا كان الرد بالإيجاب، فلماذا لا يحسن البعض قراءة ما يكتب؟ ولماذا لا تكون المراجعة وإعادة النظر ضمن إستراتيجيات الحريصين على أمن اليمن ومستقبل شعبه؟
إن التأريخ لا يعيد نفسه فحسب، وإنما يختار أسوأ محطاته فينفخ فيها روح الملهاة، وهو يطل من ثنايا الأفكار المبتسرة ويتعافى مع أنصاف الحلول. لقد كان سؤالنا بالأمس "اليمن إلى أين؟"، أما اليوم فإن السؤال الأجد هو "اليمن إلى متى؟"!
سوف نسمع العالم يتحدث عن تعقيدات الوضع قبل التسوية السياسية وبعدها، لكننا لا نرى بحثاً جاداً عن ماهية هذا التعقيد وأسبابه؟ كل ما في الأمر أن هؤلاء وأولئك التقوا على تقديرات أولية لامست القشرة العالقة على سطح الأحداث وجعلوا السياسة محركاً للمسائل الأمنية بينما وضعوا الملف الأمني على ذيل موضوعات التغيير.
زد على ذلك أن المال يذكي التطلعات الشخصية ويصب في خدمة المشاريع الصغيرة دون تبصر في الاحتمالات العكسية التي سيحدثها المال عندما يصبح مصدر إزعاج، كما هو مردوده الضار بالنسبة لليمن وإعاقة قدرته على الفكاك من إسار التخلف.
لهذا نكرر طرح سؤالنا السابق: اليمن إلى أين؟ اليمن إلى متى!؟