تمر هذه الأيام الذكرى المئوية لغرق سفينة التايتنك الشهيرة عام 1912، وهي في طريقها من ميناء مدينة ساوثهمبتون في أقصى الجنوب البريطاني، إلى العالم الجديد في أمريكا، وتحديداً مدينة نيويورك التي صارت محط أفئدة المهاجرين الباحثين عن بدايات جديدة. إلا أنه لم يكتب لتلك الرحلة أن تصل إلى وجهتها النهائية، إذ اصطدمت السفينة بجبل جليدي هائل تسبب في غرقها في واحدة من أسوأ الكوارث البحرية المدنية في العصور الحديثة، إذ بلغ العدد التقريبي لضحايا تلك المأساة حوالي 1500 شخص، والجدير بالذكر أنه كان من ضمن المسافرين مئة عربي معظمهم لبنانيون ومصري واحد. ومنذ أن حصلت المأساة والذاكرة الغربية تحاول توثيق أحداثها تاريخياً علمياً وأدبياً وفنياً، فالعديد من الرحلات الاستطلاعية انطلقت منذ أوائل القرن الماضي وحتى الثمانينات منه إلى أن تم تحديد المكان الحقيقي للسفينة الغارقة في أعماق المحيط الأطلسي. كما ظهرت العديد من القصص والروايات والأفلام التي تحكي قصة هذه المأساة، ولعل أشهرها فيلم (تايتنك) لمخرجه جيمس كاميرون، والذي صدر في عام 1997م ويحكي قصة حب مسرحها أحداث السفينة الشهيرة، وهو يعود هذه الأيام إلى صالات السينما العالمية بالتقنية ثلاثية الأبعاد.

في متحف الجمعية الوطنية الجغرافية (ناشيونال جيوغرافيك) معرض خاص بمناسبة هذه الذكرى المئوية، يركز على جهود العثور على التايتنك والدراسات التي لا تزال قائمة لمعرفة الأسباب التقنية والبشرية التي أدت لغرق هذه السفينة التي كان يفترض أنها غير قابلة للغرق، فقد سألت مسافرة وهي تطأ بقدميها سطحها مبهورة بحجمها الهائل وجمال تصميمها: "هل صحيح أن هذه السفينة لا يمكن أن تغرق أبداً؟" فأجابها أحد العاملين عليها: "أجل يا سيدتي فحتى الرب ذاته غير قادرٍ على إغراق التايتنك" في تحد سافر للقدر يظهر غرور الإنسان الذي سيكتشف بعدها بفترة وجيزة ضعفه أمام إرادة الخالق.

يُظهر المعرض بأن أخطاء كبيرة وأخرى صغيرة تسببت في هذه المأساة وفي زيادة أعداد الضحايا. فمن ناحية كان عدد مراكب النجاة في التصميم المبدئي يكفي لجميع المسافرين، إلا أن فكرة سخيفة عن أن هذا العدد الكبير من المراكب يمكن أن يشوه المنظر العام للسفينة العظيمة أدى إلى تخفيض عددها لاحقاً إلى النصف! وكيف أن المسؤول عن إرسال البرقيات المدفوعة من قبل المسافرين الأثرياء كان مهتماً بإرسال هذه البرقيات أكثر من اهتمامه ببرقية وصلته من سفينة قريبة تنذرهم بشأن جبال الجليد في المنطقة، فلم يهتم أصلاً بإبلاغ تلك البرقية للقبطان، ولا كان ذلك جزءاً من عمله أصلاً. فقد كانت هناك عدة سفن قريبة من موقع الحادث وليست بحجم ولا عظمة التايتنك ومع ذلك وحدها الأخيرة من عانت من تلك النهاية الأليمة لعوامل عدة قد يكون من بينها السرعة الهائلة والرغبة في تحقيق رقم قياسي في سرعة عبور المحيط الأطلسي.

وقد أنتج المخرج نفسه جيمس كاميرون (وهو مغامر ومكتشف ومهندس له براءات اختراع مسجلة) مؤخرا فيلماً وثائقياً عن جهود العثور على حطام التايتنك عرضته قناة ناشيونال جيوغرافيك التلفزيونية قبل بضعة أسابيع. ويجسد هذا الاهتمام الأوروبي والأمريكي نوعاً من الوفاء لضحايا هذه الفاجعة وأهلهم، وكذلك اهتمام بتاريخ هذه الشعوب، ورغبة جادة في استخلاص العبر فيما يتعلق بكيفية إدارة الكوارث لتفادي مأساة مماثلة.

في المقابل، حالنا بصفة عامة كعرب وبصفة خاصة كسعوديين مع الآثار والتاريخ لا يسر، فالكثير من الأماكن التاريخية تعرضت للعبث أو التخريب، مع أن تاريخنا الوطني ذو قيمة مضاعفة، إذ إن جزءاً كبيراً منه يحكي تاريخ الإسلام ذاته وحكاية الرسالة المحمدية الخالدة. فمواقع مثل غار حراء أو غار ثور أو دار أبي الأرقم أو دار أبي سفيان أو دار الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة، وعشرات المواقع الأخرى في المدينة وما حولها، كان يفترض أن تتحول إلى مزارات تاريخية (وليس دينية) لتربط السعوديين بل وكل المسلمين بدينهم وحضارتهم وتاريخهم. كما وأنه نظراً لأن غير المسلمين لا يسمح لهم بدخول مكة المكرمة ولا المدينة المنورة، فوجود متحف إسلامي متكامل في جدة يستخدم أحدث التقنيات سيعطي هؤلاء فرصة للتعرف على قصة الرسالة الخاتمة.

هناك أيضاً رغبة في التعرف على تاريخ في الجزيرة العربية قبل الإسلام، يستعرض أهم الشخصيات الفاعلة آنذاك وأهم الأحداث الجسام، ولعل حادثة الفيل وحرب الفجار وحرب البسوس وغيرها أمثلة على ذلك. ففرق كبير بين أن تقرأ عن هذه الأحداث، وهو ما تقوم به فئة محددة مثقفة من الناس، وبين أن تراه مجسداً أمامك في معرض أو فيلم أو غيره، بحيث يصبح متاحاً للصغير والكبير، للمهتم كما لذلك الذي لم يكن له شغف سابق بالتاريخ لكن المعرض نجح في إغرائه. والأمر نفسه ينطبق على تاريخنا الحديث نسبياً سواء ما قبل نشوء الدولة السعودية (حصار البرتغاليين لمدينة جدة مثلاً وصمود أهلها أو أحداث "سفر برلك" في المدينة المنورة) أو أثناء نشوء الدولة أو بعد ذلك، بما فيه إسهامات السعودية وتضحيات رجالها في الحروب العربية من 1948، وحتى حرب العاشر من رمضان ودور النفط فيها وصولاً إلى حرب تحرير الكويت. وسيكون لهذا الأمر فوائد اقتصادية أيضاً، فالمشرفون والعاملون في هذه المتاحف وعلى عمليات التوثيق هذه يفترض أن يكونوا من خريجي كليات التاريخ والجغرافيا والآثار والآداب والعلوم الإنسانية بصفة عامة، والذين كثيراً ما يواجهون البطالة ويقال لهم إن تخصصاتهم غير مرغوبة، في حين أن نظراءهم في الدول المتقدمة يشغلون وظائف مهمة في المتاحف والمراكز العلمية والثقافية.

أمة بلا تاريخ هي أمة بلا ذاكرة، وأمة بلا ماضٍ تختزنه هذه الذاكرة لا يتوقع أن يكون لها حاضرٌ يليق بها، ولذلك نجد بعض الأمم الحديثة تعمل على أن تخترع لها تاريخاً فتحتفي بأصغر حادثة وتثبتها في وجدان شعوبها، في حين أن هناك أمما أخرى لديها فائض من تاريخ وحضارة وتراث تتكاسل عن الاحتفاء به مع أن كل ما عليها فعله هو أن تنفض الغبار عن كنوزها.