هذا ليس تصورا عاطفيا من ابنة بارة للوطن فحسب، بل هو شعور راسخ تدعمه الشواهد من حولنا. إذ تتزامن احتفالاتنا باليوم الوطني هذا العام مع جائحة كوفيد-19 العالمية التي أربكت العالم كله، وأربكتنا كذلك باعتبارنا جزءا هاما منه، لكني تعلمت من الحياة أن قوة الحكومات والمجتمعات تقاس بقدرتها على التجاوب السريع مع المتغيرات وتحويل الأزمات إلى فرص ومنصات انطلاق، وهو ما أكدته الأحداث فعلا.
لا تقتصر احتفالاتنا هذا العام على استحضار عراقة الماضي فقط، والدعاء لمن وحّد هذه البلاد وأمّن أهلها وسعى لحقن دمائهم وحفظ كرامتهم وصناعة وطن عظيم من خلال بناء الإنسان، ولا تنتشي أرواحنا في هذا اليوم الغالي لأننا نستمتع بمكتسبات الحاضر التي أسس لها ملوكنا على مدى السنوات التسعين الماضية فحسب، لدينا أسباب أخرى للفخر والفرح والانتشاء، لدينا مستقبل نصنعه ونستعجل الوصول إليه، وهذه العجلة لها ما يبررها، فمن ذاق حلاوة التحليق إلى أهدافه لن يشبع المشي شغفه للوصول.
ومن أعظم أسباب الفرح وشكر المنعم سبحانه في يومنا الوطني المتزامن مع هذه الكارثة أن نستشعر حياتنا في وطن يضعنا في رأس اهتماماته، ويصرح قائده الأعلى - خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز - بذلك في خطاب أبوي لا ينسى ليرسي قاعدةً هامة مفادها أولوية إنسان هذا البلد، مواطنا كان أم مقيما، أولوية تحفظ للإنسان حياته وهويته وكرامته ومكتسباته العديدة، وتصورا قياديا يضع الإنسان في قلب كل الخطط الإستراتيجية والتنموية والطارئة.
لقد رأينا المؤسسات الحكومية تغير خططها وترسم المخارج السريعة للاقتصاد والتعليم والأمن والصحة، واضعة نصب عينيها مصلحة الإنسان بكل أبعادها.
لقد وفرت الدولة وسادة آمنة للخروج من هذا المأزق بأقل الخسائر اقتصاديا وصحيا، وصرحت بأنها ستتحمل تبعات هذا الهدف في نموذج قيادي لم يشهد العالم له مثيلا في هذه الأزمة، ولم يقتصر هذا التوجه على الصحة والاقتصاد فقط بل سارع التعليم أيضا للقيام بدوره في احتواء هذه الأزمة، وإنقاذ المتعلمين من تبعات الجائحة ما أمكن بتسخير كل الطاقات البشرية والمادية للتعليم عن بعد منذ الأيام الأولى للأزمة، مع رسم خطة بعيدة المدى للإصلاح والتعويض مما يشعر المواطن بالاطمئنان والفخر ويعظم شعوره بالانتماء والولاء. ولأن الله سبحانه يكافئ عباده على الصدق والإخلاص معه، خصوصا من هم في موقع المسؤولية، فقد أعلنت وزارة الطاقة قبل أسابيع عن اكتشاف حقلين جديدين للنفط والغاز الطبيعي في منطقتي الحدود الشمالية والجوف، مما سيسهم ولا شك في تسريع عملية التعافي من آثار الأزمة الاقتصادية التي سببتها الجائحة.
إن أيادي الخير السعودية لم تقتصر على المواطنين والمقيمين على أرضها فحسب، بل امتدت بالعطاء لدول أخرى استشعارا من القيادة لمسؤولياتها على الخارطة الدولية، وتفاعلا مع الأحداث المتسارعة في هذا العام من أزمات صحية وكوارث طبيعية، مع التركيز على مثلث حفظ الحياة وتحسين جودتها، وأعني تحديدا الصحة، والتعليم، والإغاثة، فقد شهدت الأيام الماضية قبولا دوليا بالأغلبية في الجمعية العامة للأمم المتحدة لمشروع قرار اقترحته المملكة العربية السعودية، يهدف لتوحيد الجهود في التنسيق لاستجابة عالمية عملية لمكافحة جائحة كوفيد-19 الحالية وأي خطر صحي مماثل مستقبلا، وهذا القبول الدولي يتوّج جهود المملكة في هذا الملف الملح خلال رئاستها لمجموعة العشرين. الجميل في حيثيات هذا المشروع هو حرص ممثل المملكة على تقديم الدعم والمساعدة لكل الدول النامية دون استثناء أو تمييز، وفي الوقت المناسب للتعامل مع هذه الحالة الإنسانية الطارئة، وهذا هو منهج الكبار دائما.
وفي ملمح عظيم آخر، تعمل المملكة حاليا ممثلة في وزارة التعليم على إنشاء محتوى إلكتروني متجدد ضمن خطتها المستدامة للحد من الأمية على المستوى العالمي. هذا المحتوى الموجه للناطقين بالعربية هو جزء من خطة الوزارة لتعزيز التعليم المستمر وضمان وصول المستخدمين للمصادر التي تساعدهم على التعلم. كما أكد المسؤول عن هذا الملف في الوزارة حرص القيادة على توفير هذه المصادر دون مقابل مادي للمستفيدين حول العالم. ولا أعرف حقيقة مصدرا لبناء الإنسان أكثر أهمية من التعليم، وإعلان هذه البشرى بالتزامن مع اليوم العالمي لمكافحة الأمية قبل أيام يعكس إدراكا حقيقيا لمكاننا ومكانتنا في هذا العالم، كدولة تساهم في صنع مواطنين عالميين يساهمون في التغيير الإيجابي من بوابة التعليم.
أما ملف دور المملكة الإغاثي فحدث ولا حرج، إذ يعمل مركز الملك سلمان للإغاثة، وهو الذراع الإنسانية للمملكة، على مد يد العون للمجتمعات المنكوبة والمتضررة عبر برامج ومشاريع إغاثية وإنسانية للتخفيف من معاناة المتضررين، ولعل ما شهدته الأسابيع الأخيرة من أحداث موجعة في لبنان والسودان خير شاهد على مبادرات هذا الوطن المعطاء، بالإضافة لموقف الدولة المستمر منذ سنوات في دعم ضحايا المناطق المنكوبة في اليمن وسورية وفلسطين صحيا وتعليميا وإنسانيا.
لا غرابة إذن في أن يغمرنا شعور دافئ بالامتنان للواحد الأحد أولا أن خلقنا سعوديين وجعل قادتنا منا وفينا ومعنا ولنا عبر هذه العقود من الحكم الرشيد والرأي المسدد، الذي توج في الأعوام الأخيرة بالحزم السلماني والعزم المحمدي. هذا الحب والولاء لا يفهمه الطارئون على مفهوم الوطن ولا يستوعبه الراكضون إلى مصالحهم الخاصة والمغادرون في أول فرصة. ولكل ما سبق، ولأحلامنا ولأمنيات أبنائنا ومستقبلهم نقول كل عام وأنت بخير يا وطني، وأعاد الله علينا مواسم الفرح والشكر وأنت تغمرنا بعطائك وترسم مستقبلنا بألوان البهجة المستدامة.