لم يكن صدفة أن يكون موقف حركة التنوير العربي، معاديا للدولة الوطنية. فهذا الموقف يجد تفسيره في حادثة تاريخية، شملت بلاد الشام. لقد جاء اتفاق سايكس- بيكو في الحرب العالمية الأولى ليفتت بلاد الشام لأربعة كيانات، هي سورية ولبنان والأردن وفلسطين، وليضع الأساس، لتنفيذ وعد بلفور بإقامة وطن قومي لليهود. وكانت نتيجة ذلك تبني قادة حركة الانبعاث العربي لموقف مناوئ للكيانات الوطنية، وإسقاط هذا الموقف، ليس على التي نتجت عن مقص التفتيت فقط، ولكن على جميع الكيانات الوطنية العربية، بما فيها تلك التي أكدت حضورها التاريخي واستمرارها لآلاف السنين.
في هذا الاتجاه، تواصل التنظير، بفكرة الأمة، باعتبارها مسلمة ليست بحاجة لإثبات، ولا يشكل قيام الدولة الحديثة، أو علاقات الإنتاج شروطا موضوعية لوجودها، لكن في النصف الثاني من الأربعينات تبنت حركة التنوير، مشروع الدولة العربية الواحدة. وتزامن ذلك مع تأسيس جامعة الدول العربية، وقيام النظام العربي الرسمي الذي استمر قائما إلى ما بعد مرحلة إنجاز معظم الدول العربية مهمات الاستقلال. وكما كانت حركة التنوير العربية، في مرحلتها الأولى، أثناء مقاومة الأتراك، والمرحلة التي أعقبتها، رهينة لتجاذبات اللحظة التاريخية وتوتراتها، فإنها وقعت أيضا رهينة لتوترات لحظة أخرى في التاريخ العربي، تمثلت في مرحلة الصعود الكاسح لحركات التحرر الوطني في العالم الثالث بأسره، وفي مضي الصهاينة حثيثا، في تنفيذ مشروعهم الاستيطاني وتصاعد حركة الهجرة اليهودية لفلسطين.
لم تقدم حركة التنوير أجوبة شافية على الشعارات التي طرحتها، فشرط الانتماء للأمةـ لم يتعد الحديث عن العواطف والنزوع الباطني نحو بشر بعينهم، وأن ذلك هو حب قبل كل شيء. بمعنى آخر، الوعي والإرادة في الفكر التنويري شرطان للانتماء للأمة. وتلك بحد ذاتها معضلة، لأنها تقفز فوق الواقع الموضوعي. فرغم أن القول بالوعي والإرادة يبدو مقبولا في أمم استكملت وحدتها، ولكنه في منطقة تتعرض لتحد استعماري، وتعشش فيها، وفي جنباتها هويات ما قبل تاريخية فإن من الملح التمييز بين الإرادة والإرادوية. كما أن فكرة المواطنة، كما هي مشخصة في الدولة المدنية، بقيت مغيبة في فكر التنوير. لا شك أن الحالة المثالية لوجود أية أمة، هي في تطابق حدودها الطبيعية مع واقعها السياسي، والعرب ليسوا استثناء من هذه القاعدة. فالحضور المادي والمعنوي للأمة يفترض التجانس في العلاقة بين فكرة الوطن والأمة والدولة.
ووجود حالة التجزئة هو الذي يخلق حالة الارتباك، التي تصل حد التشكيك في وجود الأمة. فالأمر الطبيعي والتاريخي، أن تكون الأمة متحققة في كيانية سياسية. بل إن الأدبيات السياسية المعاصرة، تربط مفهوم هذه الكيانية بالدولة المدنية الحديثة القائمة على وجود دولة العدل والقانون والفصل بين السلطات، في استنساخ للمفهوم الأوروبي الذي ارتبط بعصر الأنوار، وبمدلولاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ولأن وحدة الأمة، لم تكن متحققة جاءت الدعوة لها معبرة عن قانون التحدي والاستجابة. إلا أن التصميم على النهوض، يقتضي مراجعة نقدية لفكر التنوير، بما يتسق مع التحولات الكونية، في مجالات السياسة والاقتصاد والعلوم والمعرفة. لابد من تحقيق اختراقات فكرية، وإعادة تركيب وترتيب صياغة جديدة للمفاهيم، وتجاوز مغاليق العمل العربي، قبل الولوج في صياغة برنامج عملي لانطلاق هذا الفكر. فالعلاقة الرومانسية بالعروبة والوحدة، لم تحتم قيام هذه الدولة، ولم تمكن من الاستمرار في التسليم بيقينياتها.
لقد حققت الأمم الأوروبية وحدتها، ولم تكن بحاجة إلى الجوانب الرومانسية، لكي تستكمل وحدتها. لقد كان المحرض لهذه الأمم بزوغ قوى اجتماعية جديدة، وجدت من مصلحتها الانطلاق إلى اقتصادات الأبعاد الكبيرة. وتمكنت من كنس كل المعوقات التي وقفت في طريقها. ولم يعد هناك مفر سوى تجاوز البنى القديمة، عشائرية وقبلية ونظام إقطاعي، وقيام دول حديثة على أسس تعاقدية، تعتمد الفصل بين السلطات.
لا مندوحة من اجتراح وسائل أخرى، بإعمال العقل والفعل لتطوير هذا الفكر. لا بد من عمل خلاق ومبدع، يقسر الظروف التاريخية، بالتغلب على عناصر الردة، ومعوقات النهوض. ونجد أنفسنا هنا مجبرين، أن نركز على عنصري الثقافة والوعي، مسلمين بأن الفكر، قوة تاريخية، كما هو الفعل أيضا قوة تاريخية.