في حمأة الحراك السياسي والاجتماعي والقانوني في الدول العربية اليوم، تتحرك مفردة الحرية بين الشفاه والأقلام وأجهزة الكمبيوتر بشكل سريع ومتوتر. الجميع يطلب من الجميع تعريفهم للحرية، ووسط الكم الهائل من الشعارات يبحث الناس عن الوضوح من خلال الكلام الواضح. ماذا تعني بالحرية؟ هذا سؤال جوهري اليوم داخل الحراك الفكري الفردي والجماعي لأنه باختصار مرتبط مباشرة بمنظومة الحقوق والواجبات المباشرة، فالناس الذين يطلبون من حزب الإخوان في مصر مثلا تعريفا واضحا للحرية، يريدون التعرف من خلاله على موقف هذا الحزب من قضايا جوهرية كحريات التعبير والتفكير والمعتقد والمشاركة السياسية وغيرها من القضايا التي ستتأثر بمفهوم المشرّعين للحرية. كذلك حين يطالب المثقف شريكه في ذات المجال بتعريفه للحرية فهو يريد رسم خارطة للمشهد العام يفهم الواقع من خلالها ويتحرك بناء عليها بوضوح بدلا من الشعارات الرنانة التي تخفي أكثر مما تكشف. هنا سأناقش أحد التعاريف المتداولة في الساحة للحرية لأوضح خلوّه من المعنى والدلالة الحقيقية رغم ظاهره المبهر.
أحد التعاريف المتداولة تعريف جون ستيوارت مل للحرية على أنها "أن تفعل ما تشاء ما لم تؤذ الآخرين". هذا التعريف حين يستخدم بهذا الشكل في الساحة العربية فهو لا يعني شيئا باعتبار أنه يعاني مشكلة منطقية باعتباره تعريفا لأنه يحيل على مجهول، وتحديدا الطرف الثاني من الجملة "التعريف" وهي "ما لم تؤذ الآخرين"، هذا الحد من التعريف بحد ذاته فارغ من المعنى لأنه باختصار يحيل على معنى غير محدد ومفتوح لكل الاحتمالات. والدليل على أن هذا التعريف خال من المعنى أنه يمكن أن يتم حشوه بمعان مختلفة ليخدم وفي ذات الوقت المتطرف الديني أو العرقي أو الإيديولوجي الذي لا يرى لمخالفيه حقا في الوجود كما يخدم الفوضوي الذي يرى أن الحرية الاجتماعية والسياسية مطلقة بلا قيد.
المتطرف يقبل هذا التعريف ولكنه يحشو شرط عدم إيذاء الآخرين بمقاييس حادة مناسبة له فقط. بمعنى أن تعريف المتطرف سيكون أن الحرية هي أن تفعل ما تشاء بشرط ألا تؤذي الآخرين وإيذاء الآخرين هنا يشمل أن تخالفهم في التفكير وتعبّر عن ما يزعج مشاعرهم كما يشمل نقدك لرموز يحترمونها كما يمكن أن يقول إن لبسك لزيّ معين مخالف للعادة يؤذي مشاعر الناس ويجرح معتقداتهم أو باختصار يمكن أن يقول إن وجود المخالف مؤذ للسلم الاجتماعي، مما يجعل من تعريفه للحرية لا يتجاوز حريته الشخصية وقمعه لمخالفيه.
الفوضوي يمكن أن يمدد شرط التعريف ليجعله بلا حدود ليصبح التعريف تقريبا أن الحرية هي أن تفعل ما تشاء. وبهذا نحن أمام تعريف بلا جدوى بمعنى أنه لا يقدم أي تحديد واضح لموقف مستخدمه من الحرية. صورة التعريف (س= ص إذا ع) (س= الحرية ، ص= تفعل ما تشاء ، ع= إذا لم تؤذ الآخرين) تبقى مجرد صورة إلا إذا تم ملء كل العوامل المتغيرة في التعريف خصوصا الشرط "ع" لأن الشرط يترتب عليه تحقق التعريف من عدمه.
المشكلة مع الشرط الذي يحيل على رأي شخصي أنه يبقى مرتبطا بتحولات وتبدلات هذا الرأي الشخصي مما يجعل من الطرف الآخر، أي طالب الوضوح من التعريف، خارج السياق بالكامل. ستيوارت مل كان على وعي عميق بهذه المشكلة، لذا ألف كتبا يشرح فيها ماذا يعني بالضبط بتعريف للحرية خصوصا في كتابه "عن الحرية" ليتحدث فيه تحديدا عن علاقة الفرد بالمجتمع ويطرح سؤال: ما الحدود التي توضح شرط التعريف أعلاه أي حد ما يزعج الآخرين ويجب أن تتوقف عند حرية الفرد. يسأل مل أين تنتهي حدود الفردية وتبدأ حدود المجتمع؟ ما حدود سلطة المجتمع على الفرد؟
في البداية يقرّ مل (مخالفا الفوضويين) أن عيش الفرد وسط جماعة يترتب عليه أن يتنازل عن جزء من حريته للجماعة في مقابل ما يحصل عليه منهم من حماية وشعور بالانتماء. يقول مل: "إن كل من يتلقى حماية من المجتمع يدين بشيء مقابل تلك المنفعة، وحقيقة العيش في مجتمع تجعل من الواجب أن يلتزم الكل باحترام ومعاينة خط معين من السلوك تجاه الآخرين. يتكون هذا السلوك بداية، من عدم إلحاق الضرر بمصالح بعضنا البعض أو بالأحرى إلحاق الضرر ببعض المصالح التي ينبغي اعتبارها حقوقا، إما بالنص الصريح، أو من خلال الفهم الضمني، ويتكوّن ثانيا من تحمل كل شخص لحصته، التي تحدد بالتساوي، من الجهود والتضحيات المترتبة لأجل حماية المجتمع أو أعضائه من الأذى والتحرش". عند هذا الحق تقف حدود سلطة المجتمع (هنا يخرج عن تعريف المتطرف) ليتمتع الفرد بحياته الخاصة التي يصممها حسب النمط الذي يحبه مهما بدا غريبا أو شاذا عن العرف الاجتماعي. لا يحق للآخرين منع الفرد من ممارسة فرديته بحجة أن سلوكه لا يعجبهم أو يؤذي مشاعرهم. حرية الفرد هنا لها الاعتبار الأقوى والأهم. في الكتاب أيضا، تحديدا في الفصل الثاني، يوضح مل أن حرية التفكير والتعبير هي خارج سلطة المجتمع أو أي سلطة أخرى فهي حق فردي جوهري.
المثير للقلق عربيا أن التيارات الأقرب للسلطة اليوم في بعض البلدان العربية، أي التيارات الدينية، هي أكثر التيارات ضبابية في تعريفها للحرية وأكثرها رغبة في إرجاء هذا التعريف حتى لا يضر بمصالحها الانتخابية أو يقيّدها حين تصل للسلطة ولا تقل عن هذه الضبابية مواقف عدد من المثقفين الذين يرفعون شعارات الحرية دون أثر على مواقفهم على أرض الواقع.