تشهد المملكة عدة موجات غبارية وعواصف رملية متتالية، حتى إنها أصبحت شبه مجدولة ليومي الجمعة والسبت، وغالبا ما تنجلي قليلا بقية الأسبوع، ومن ثم تعاود لتضرب مرة أخرى. السيناريو موحد يبدأ بتنويهات وتنبيهات من الأرصاد الجوية لا يعلم عنها إلا من يتابع الإنذار المبكر على موقعهم الإلكتروني، أما بقية المواطنين فهم تحت رحمة القنوات الإعلامية الرسمية لتعلن عن تحذيرات الدفاع المدني التى قد تصيب بالتوقيت مرة وتخطئ مرات. ينتهي هذا السيناريو المفاجئ المتكرر عادة بمواطنين خارج منازلهم فيتم احتباسهم بطريق وحوادث أو بغرفة طوارئ لضيق تنفس حاد.
لا نستطيع التحكم بالظواهر الطبيعية، ولكننا نستطيع التصدي لها حين تضرب، لذلك لا بد أن تُعرف ماهيتها لتبنى خطة للتعامل معها، والحقيقة المرعبة أننا لا نعلم ماهية هذه الموجات الغبارية، وهل هي غبار وأتربة أم هي خليط من أتربة وتلوث، وإن كانت الأخيرة فما هي نسبة هذه المكونات وهل جاوزت المعايير المسموح بها لصحة المواطن على المدى القريب والبعيد أم لا؟.
أسئلة عديدة تظهر على السطح في ظل عدم وجود مؤشر تفاعلي لجودة الهواء في المملكة وغياب تام لخرائط التلوث لنكتفي بدس الرؤوس كالنعام تحت كثبان الغبار الذي تخلفه هذه العواصف.
ذكرت وكالة الأنباء السعودية، في الأول من هذا الشهر، خبرا مفاده أن محطات قياس جودة الهواء المتنقلة التابعة لجامعة الملك عبدالعزيز بجدة قد سجلت تراكيز عالية للجسيمات العالقة المستنشقة خلال فترة العاصفة الترابية الأخيرة، وصلت لما يزيد على "أربع" مرات عن الحد الأقصى المسموح به طبقا لمقاييس حماية البيئة التابعة للرئاسة العامة للأرصاد وحماية البيئة السعودية!
هذه الجسيمات الصغيرة حجما، والعظيمة تأثيرا تدخل لتستقر بالرئتين لتبدأ رحلة قصيرة وطويلة المدى من أمراض الصدر والقلب والسرطانات في غفلة من المواطنين ليفاجأ أحدهم بسرطان وهو لم يدخن قط أو ليدخل العناية المركزة فجأة لينتهي بشهيق بلا زفير.
وجود التراكيز العالية لهذه الجسيمات العالقة يجعل من الهواء عاملا مهما في تعزيز بيئة خصبة لتكاثر نواقل الأمراض التي قد تهاجم الشخص داخل منزله من بعوض وغيره، فيصبح عرضة للأمراض وان لم يتعرض لتقلبات الطقس وتلوثه بشكل مباشر.
هذه التراكيز العالية تتجاوز الأهمية الصحية لتصل لأهمية اقتصادية عقارية، فمتى ما تم عرضها تفاعليا للمدن والأحياء فإنها ستسهم في رفع أو خفض أسعار العقارات إيجارا ومبيعا، وهذا بحد ذاته محفز استراتيجي لتطوير جودة الهواء كما هو حاصل في دول العالم الأول، حيث تعتبر شهادة جودة الهواء الداخلية والخارجية السنوية للعقار أحد الإجراءات الروتينية لديهم. هذه القيمة الاقتصادية المهملة تضاف لفاتورة اقتصاديات الصحة من وفيات وعلاج ومتابعة وتأهيل الأمراض الناتجة من تلوث الهواء.
وجود مؤشر وطني لجودة الهواء في المناطق والمدن المختلفة وربطه بمؤشر صحي توعوي للإنسان وآخر لأصحاب المزارع الحيوانية والنباتية هو ضرورة حتمية في ظل التغيرات الطبيعية الحالية والتلوث الجوي المجهول حجمه حتى اللحظة.
جودة الهواء مسؤولية مشتركة بين القطاعات الحكومية والجمعيات البيئية والمواطنين، ولكن ضياع البوصلة الحالي بعدم نشر الحقائق والتحاليل ـ إن وجدت ـ وعدم التوعية بما يمكن عمله وقايةً وفي حال تدهور جودة الهواء؛ يعفي المواطن من الجزء الأكبر لهذه المسؤولية وينقلها للقطاعات المختلفة المسؤولة عن جودة الهواء التي متى ما ثبت تقصيرها وتهاونها فإنه لا بد من تعريضها للمساءلة القانونية وإلزامها بالتعويضات للمتضررين من تلوث الهواء.
جودة الهواء تقودنا لحاجة ملحة وهي إيجاد قناة إعلامية محلية مرئية ومسموعة للطقس في المملكة، وأن تكون لها تطبيقات إلكترونية للهواتف المتنقلة بحيث تتولى مهمة التوعية والتنبيه بالتغيرات الجوية على مدار الساعة وبشكل يومي وموسمي لمناطق المملكة المختلفة وربطها مباشرة بهيئة الأرصاد وحماية البيئة وأن تزود من قبل الدفاع المدني بآلية تنبيه تلقائية مخصصة لكل منطقة بأسماء ومواقع التجمع والإخلاء في حالات الطقس الشديد.