«القهوة أصبحت مفاخرة، ولم تعد مجرد مشروب شخصي».

مقولة تلخص تحولاً شديداً في السلوك الاجتماعي لا يمكن إنكاره، فبعد أن كانت مذاقاً ومشروباً شخصياً، تحولت اليوم باباً جديداً للمفاخرة، لم يفوّته أصحاب المصالح، الذين باتوا يتنافسون في رفع أسعارها، وصارت المقاهي بعلاماتها التجارية، وديكوراتها الحديثة تغزو الشوارع وتتزاحم فيها بتلاصق شديد، مستغلة هذا الشغف بالتفاخر، حيث تحول فنجان القهوة إلى ما يشبه «المزهرية» التي توضع على الطاولات لتزيد المكان زينة وبهاء، وبدل من أن يستخدم كما يقال لـ«تعديل المزاج» صار مدعاة للتفاخر عبر الحرص على التصوير والتوثيق والبث عبر منصات التواصل الاجتماعي، حتى مع الكلفة العالية جدا له، والتي يسدد ثمنها في الغالب «البسطاء»، وهم في الغالب من المراهقين الشباب، الذين لا تعني القهوة وما فيها كثيرا منهم، بقدر ما يعنيهم أن يتصوروا مع الفنجان ويكتبوا تحت الصورة «نحن نرتشف القهوة في....»، حتى لو كان الثمن يستهلك الجزء الأكبر من مصروفهم، أو حتى لو كانت فوق طاقة العاطلين منهم عن العمل.

القهوة المزهرية


مع تعدد ألوان ونكهات القهوة، وجدت إقبالا شديداً عليها من الفئات التي تتراوح بين 15 إلى 35، لكن هؤلاء يهتمون أكثر من مذاقها بمكان تقديمها، أو يحرصون على الظهور وهم يحملون أكوابها خلال تسوقهم أو حتى ارتيادهم للأندية الرياضية.

ويبرر يزيد العصيمي وهو صاحب مقاه «القهوة الملونة باتت ظاهرة تسويقية تستهدف فئة معينة في الغالب تتراوح بين 20 إلى 35 عاما، وقد تمتد أكثر لما يمكن أن نسميهم أصحاب مزاج وهم بين الـ35 والـ45 لكنهم أقل في النسبة».

ويضيف «لا يعني كثيراً من المستهلكين اختيار المقاهي ذات الجودة في المكونات والتي تقدم قهوة ممتازة، بقدر ما يركزون ـ وهذا ما فطن له أصحاب المقاهي ـ على ديكور المقهى، حتى لو على حساب جودة القهوة، ونلاحظ فعلا أن المستهلك يرغب بمكان فاخر ذي طابع مميز بالدرجة الأولى، وإن كنت أتمنى أن يتواكب هذا مع جودة ما يقدم له».

وحول المبالغة في الأسعار، يقول «ترتبط الأسعار بأمور عدة، منها رسوم الإجراءات الحكومية من حيث الرُخص والعمالة وارتفاعها، وجودة البن المستخدم، إضافة إلى تكلفة المكان والجو العام للمقهى والتغيرات والتطوير، ناهيك عن جودة الأجهزة المستخدمة في إعداد القهوة، ورواتب الموظفين وخصوصا السعوديين أصحاب المهنة، والأهم كذلك أجرة المحل».

ويكمل «كل هذه التفاصيل ترتبط وتنعكس على سعر فنجان القهوة والذي يصل أحياناً إلى 18 ريالاً، وهنا يجب أن نشير إلى أن هذا السعر لا يعني مطلقا أن صافي الربح يصل إلى 70% مثلا من الثمن المسدد، بل هو أقل حتما، ويختلف من مقهى إلى آخر».

ويكمل «نحاول أن نخفض السعر النهائي على المستهلك، لكن الالتزامات المحيطة، والتي يجهلها المستهلك في الغالب تجبرنا كأصحاب مقاه على هذه الأسعار، وإن كنا نتوقع أنه مع تعدد موردي القهوة ستهبط الأسعار مستقبلا لكثرة العروض وقوة المنافسة».

الانشغال بالتصوير

ترى مها، وهي صاحبة مقهى أن أسعار كوب القهوة تتراوح بين الرخيصة والمتوسطة وما فوق، حسب موقع المقهى أولا، وحسب جودة المكونات ثانيا.

ولا تختلف مها كثيراً في تبريرها لارتفاع الأسعار عن العصيمي، فتقول «لكل مقهى التزاماته الشهرية، وهي تختلف كثيراً عن التزامات أصحاب الأكشاك والعربات المنتشرة في كثير من الشوارع».

لكنها تقر أن كثيراً من الزبائن، يهملون التلذذ بالقهوة لحساب التصوير والنشر في وسائل التواصل، وتقول «نلاحظ انشغال نسبة كبيرة من الزبائن (تتراوح أعمارهم بين الـ15 والـ35) بالتصوير وإهمال التلذذ بالقهوة، وقد واجهت صعوبات في البداية مع العملاء لإقناعهم بأن أنواع القهوة تختلف، وأن لكل منها طريقته، فمثلا المشروبات الحارة تختلف من حيث كمية القهوة، منها ما يزيد على الحليب والعكس، والباردة تختلف منها الحلو ومنها مشروب دون حلاوة، والملفت أن بعض العملاء يختار من المنيو اختيارا لا يعرفه ثم يطلب زيادة السكر، فمن الصعب الشرح لكل عميل نظرا لتعدد أنواع القهوة وكثرة العملاء».

المبالغة الشديدة

تؤكد غدير حمد، وهي طالبة جامعية أن «هناك مبالغة كبيرة، وبالأخص من طالبات الجامعة اللواتي تحرص بعضهن على المباهاة بإمساكها كوب القهوة ما يقارب الساعة وكل ذلك من أجل أن يشاهدها أكبر عدد من الطالبات.. القهوة أصبحت مفاخرة ولم تعد مشروبا شخصيا».

بدوره، يقول محمد اليامي وهو شاب عاطل عن العمل «بدأت شرب القهوة التركية في الثانوية العامة من أجل السهر والتركيز ولم أدمنها، لكن القهوة المحلاة والباردة طعمها لذيذ ومنعش في الصيف والعكس مع الساخنة وقت الشتاء.. لا أرى أن تصوير القهوة سوى توثيقات يومية تتماشى مع البرامج الحديثة وبالأخص السناب شات».

أما بندر صالح (26 عاما) وهو يعمل في إحدى شركات التوصيل فيبرر ما يحدث باختلاف ذائقة الجيل الحالي عن سابقه، ويقول «القهوة تغني عن إحدى الوجبات اليومية وبالأخص وجبة الإفطار، وقد بات الاجتماع مع الرفاق على ارتشافها في مقهى ما وسيلة من وسائل الترفيه والاجتماع والبعد عن المجالس المنزلية وكسر الروتين والملل والبحث عن أجواء هادئة ونظيفة، ناهيك عن طريقة التقديم والتنويع التي تختصر على الزبون البحث عن الجديد في عصر أصبح سريع التنوع».

ويكمل «من الطبيعي أن نوثق تناولنا لها، وهو أمر لا يقتصر فقط على القهوة، فالسوشال ميديا أتاحت توثيق كل شيء ومشاركته، والقهوة ليست شيئا استثنائيا».

تقمص الأدوار

يوضح استشاري الطب النفسي الدكتور نشأت عبدالفضيل أن «بعض الشباب يحرص على هذه السلوكيات حتى لو كانت مكلفة وفوق طاقته لأسباب عدة، منها تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على مجتمعاتنا، حيث يرى شبابنا نظراءهم الشباب في المجتمعات الأخرى، ويحاولون تقليدهم، أو السير على خطاهم لأنه يتبادر إليهم أن تلك السلوكيات تعبير عن التحضر والرفاهية.

كما يحتاج الشباب نفسيا إلى الانتماء إلى مجموعة من الأقران، وذلك احتياج نفسي كتبت فيه نظريات نفسية مثل نظرية علم نفس الذات فيقوم بعض الشباب بتقليد سلوكيات الآخرين في مجموعاتهم، بل وأحيانا تقمص أدوارهم والتوحد معهم لتعزيز انتمائهم للمجموعة والإحساس بأنهم جزء أساسي فيها، وبالطبع فكثرة وانتشار المقاهي يؤدي إلى كثرة روادها من الشباب».

وبين عبدالفضيل أنه مع تقدم هؤلاء الشباب في العمر وتحمل مسؤولياتهم في أعمالهم وتجاه أسرهم يتوقع أن يقل ارتباطهم بالقهوة والمقاهي وتلك الطقوس.

ونصح بالاستخدام العادل لوسائل التواصل الاجتماعي وتحمل المسؤولية، والإيمان أن الاختلاف بين الشعوب والثقافات يثري بعضها بعضا وليس العكس.