كانت التعبيرية عند ظهورها في الأربعينات «موجة جديدة» لم تتهيأ لها أسباب الرسوخ والاستقرار، وعندما ظهرت من جديد في قصة ليحيى حقي، وفي ثلاث قصص أو أربع ليوسف الشاروني، وبعض محاولات الأدباء الشبان، لم تعد كموجة جديدة وإنما عادت عنصرا من عناصر المناخ الجديد للقصة المصرية القصيرة. ذلك أن الموجة الجديدة الحقيقية الآن ومنذ سنوات قليلة مضت هي موجة القصة التجريدية كما أحب أن أسميها، مستبعدا إلى حين لفظة التجريبية والطليعية لاعتقادي أنها لفظة تبلغ من التعميم درجة لا تسمح بتحديد الاتجاه، ومنذ البداية أحب أن أقول إن الاتجاه التجريدي في مصر والبلدان العربية ليس مجرد امتداد لمحاولات الرمزيين والتعبيريين والسورياليين في الأربعينات، وإنما هو – فوق هذا تأثر بأشكال التعبير الأوروبية الحديثة ومعايشة لمأساة – أو مآسي – العصر الذي نعيش فيه وانعكاسها الحتمي على قضايانا ومآسينا الخاصة، أي أن الاتجاه التجريدي – كالاتجاه التعبيري والواقعي والرومانسي والكلاسيكي – في آدابنا العربية، ما يزال يؤكد استلهامنا لفنون الغربيين في نطاق الشكل، ولكنه يؤكد من ناحية أخرى قدرتنا على تطويع هذا الشكل لتجاربنا المحلية، كما يؤكد من ناحية ثالثة أن هناك سمات خاصة بالعصر الذي نستظل به جميعا شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، تنعكس بلا ريب على أدوات التعبير هنا وهناك.

والاتجاه التجريدي ليس تطرفا بالواقع ومبالغة فيه وتحريفا له فتلك كلها صفات الاتجاه التعبيري الذي يميل بطبعه إلى التلبس بالواقع ومشابهته أو موازاته إلى غير ذلك من اللعب التعبيرية، وكذلك ليس التجريد خطوطا خارجية خلت من التفاصيل فهذا شأن الكاريكاتور أو الاتجاه التعبيري، وإنما التجريد – وهذه نقطة هامة فيما أعتقد – مرحلة كاملة في تطور الفن أثمرتها رؤيا جديدة للعصر، هو في كلمة انفصال مجازي عن الواقع بكافة نسبه ورسومه البيانية وإحصائياته، ولكنه في الوقت نفسه أحشاء هذا الواقع وأغواره البعيدة مهما لجأ إلى تفتيت وحدة القياس التقليدية أو ما يسمونه في الجغرافيا بمقياس الرسم، ومهما لجأ إلى تهشيم الهارموني الكلاسيكي وما يستتبعه من حتمية تغيير الإيقاع. والتجريد كمرحلة في تاريخ الفن – لا كاتجاه فحسب – يغتني بمختلف الاتجاهات، فهناك التجريد الكلاسيكي ببنائه الهندسي الصارم، وهناك التجريد الرومانسي بألوانه البهيجة والقاتمة وتموجاتها الدافقة اللامبالية، وهناك التجريد الواقعي بخطوطه الكثيفة وتكويناته القريبة من الذاكرة الواعية إلى غير ذلك من اتجاهات التجريد الواقعي بخطوطه الكثيفة وتكويناته القريبة من الذاكرة الواعية، إلى غير ذلك من اتجاهات التجريد المعاصرة في الفن التشكيلي والأدب والموسيقى. فما يسمى بالعبث أو اللامعقول أو اللامسرح والرواية المضادة والقصيدة النثرية هي المرادف الأدبي للجمال التجريدي. ومع هذا فتحت هذه اللافتات العامة يختلف المسرح ككل عن الرواية ككل، ويختلف المسرحيون فيما بينهم والروائيون فيما بينهم، وقد يلتقي الشاعر مع الكاتب المسرحي لقاء لا يتوافر بين شاعرين أو كاتبين مسرحيين، وهكذا، فالتجريد الأصيل من الخصوبة والتنوع بحيث أنه لا يشكل اتجاها واحدا، وإنما هو مرحلة كاملة في تاريخ الآداب والفنون، تتعدد اتجاهاتها، وهي رؤيا كاملة للعصر تتعدد زواياها.

وإذا كانت التعبيرية أشبه بكابوس متصل لا يفيق منه المتلقي للعمل الفني حتى بعد إنهائه من عملية التذوق فإن التجريد لا يتخذ هذا الموقف من الحياة المعاصرة، لا يقدم لها من صورة ذلك النجاتيف الذي أجادت التعبيرية صناعته، وإنما يقدم صورة فقدت ملامحها وتفاصيلها وأمست إلى اللون الباهت أو الشفاف أقرب منها إلى التحديدات الواضحة، ومن أسوأ الأمور أن نستقبل الاتجاه التجريدي في أدبنا العربي بقولنا إنه بعيد عن مشكلاتنا أو هو لا يعبر عنها لأنه ولد في حضارة معقدة بطبيعتها هي الحضارة الغربية، إن هذا القول السيئ يغفل -كما قلت- أن مجتمعنا من الاتساع وتعدد الجوانب بحيث تعبر عنه الواقعية والتجريدية وربما الرومانسية والكلاسيكية في وقت واحد، وأن مجتمعنا بالغ التعقيد سواء في مستوياته الحضارية المختلفة أو في طبيعة الحياة التي يواجهها، ولعل مأساتنا في الهزيمة الأخيرة هي أبلغ تعبير مباشر عن تعقيدات حياتنا، فهي تلخص بعمق دام خطر التحدي الذي نعيشه فيواجهه البعض ويهرب آخرون. إنه ليس تحديا من إسرائيل بقدر ما هو تحد من الحياة والعصر، ولقد كانت نظرتنا السطحية لمجتمع ما قبل 5 يونيو هي التي تحجب عنا الرؤية الصحيحة والتي لو كنا امتلكنا ناصيتها حينذاك لرأينا الهول قبل وقوعه.


وعلينا أن نعترف بأن ثمة مسافة بين الأجيال تخلق ما ندعوه أحيانا بتعذر الفهم لكل ما هو جديد، وما زلت أذكر الصدمة الهائلة التي واجهت رواد مسرح الجيب في ليلة افتتاحه، وهو يعرض «لعبة النهاية»، وقد أصبح الآن ببيكت ويونيسكو – في مصر والعالم العربي لا في أوروبا وحدها – من الكتاب الواضحين وأحيانا الشعبيين وأحيانا الكلاسيكيين، وتلك هي سمة الانتقال من عصر إلى آخر، فالموجة الجديدة تصدم دائما ولكنها لا تلبث أن تستقر وتتحول إلى دنيا التراث المعتمد.

1971*

* كاتب وناقد مصري «1935 - 1998»