يتكون المثقف من ثقافة، وهذه الثقافة تنشأ من وعي ومن سياسة، ولنقل هنا كلمة في نموذجين من الاغتراب alienation أحدهما ظاهر للعيان وينتقد صراحة، أما الآخر فبقدر ما هو خادع ينكر من حيث المبدأ، فالتغريب أو النزعة إلى الغرب تعني بالتأكيد اغترابا واستلابا، أي نوعا من أن المرء يصير غيره، أن يزدوج ويفقد وحدته النفسية، ولو أن الحكم الصادر على هذا التحول يمكن أن يكون إيجابيا أو سلبيا وفقا للإيديولوجية المتبناة، لكن هناك شكل آخر من الاغتراب دارج وإن كان مقنعا، في الثقافة العربية المعاصرة: ذلك هو التعميم الضاري للعصور الوسطى الذي نحصل عليه بما يشبه المماثلة السحرية بعصر الثقافة العربية الكلاسيكية العظيم. في الواقع أن السياسة الثقافية لجميع الدول العربية تحارب الاغتراب، النزاع إلى الغرب بوسيلتين: تقديس اللغة العربية في شكلها الجاهلي وتعميم آثار الماضي يجعلانها في متناول الجميع (بعث إرث الماضي). والحال من ذا الذي لا يرى أن تحجر اللغة وانتقاء الثقافة التقليدية كعلامة فارقة للقومية هما أقوى وسيلة قاطعة للإبقاء على فكر العصر الوسيط حيا، كحيلة فعالة من أجل أن تمحو من الوعي تجربة موضوعية التاريخ نفسها؟ فالسلفي يحسب أنه متحلل من أفكاره، وهو في حقيقة الأمر لا يفكر باللغة في إطار تقليد ما فإن التقليد هو الذي باللغة ينبعث و«ينعكس» فيه. وسوف لا يعترف أبداً بهذا الأمر المغاير لتجربته المباشرة ولكن أي عالم لغوي وأي عالم أنثروبولوجي لا يؤيدان ذلك؟ أما الانتقائي فإنه يفكر بكل بساطة في ثقافته المستعارة وأحيانا في لغة الأصل، إنه في مكان غير ملائم لإدراك المشكلات التي يطرحها استخدام اللغة ذات القواعد الاستنباطية الموضوعة والثقافة الكلاسيكية، وبالتالي يترك هذا الميدان الرئيسي لاستبعادات السلفي وحدها. إن الاغتراب الحقيقي، في نظر كل ملاحظ هو ذلك الفقد للذات في المطلقات ألا وهي: اللغة، الثقافة، أساطير الماضي التي يندفع فيها المثقف العربي بكل بساطة، ظانا أنه هكذا يقيم الدليل في أعلى مستوى على حريته ويفصح عن شخصيته العميقة. بيد ها هنا توجد القيود الداخلية التي تشده إلى حاضر يدعي مع ذلك رفضه؛ فالروح التاريخية وحدها هي التي سوف تتيح له التخلص منها. ولسوف يستطيع أن يرى عندئذ، ربما لأول مرة الحقيقة الواقعة: أن تلك المطلقات التي يعبدها هي غريبة عنه، وأنه لا يستنبطنها أياً كان تفكيره فيها، إلا بالتحليل وبالتركيب الفكريين، أي بجهد إرادي وليس بالفهم الخاص والحدس أبداً.
الحاصل أننا قد نعجب من أن هذا المفهوم للاغتراب، الذي يرمي إلى تحرير الإنسان من أوهامه وإلى قيادته نحو طرق الواقع، يمكن أن يفسر بصورة يظهر فيها أنه يبرر أعمق شكل من الخارجانية. وهذا برهان جديد على أن الماركسية لونت بالضرورة من قبل المجتمع الذي تعمل فيه على الأقل في بداية انتشارها.
يركب مفهوم الاغتراب كما هو معروف 4 مضامين مختلفة قبل كل شيء، التموضع الذي يتيح للمثاليين الموضعيين كشيللينغ وهيجل الانتقال من المنطق إلى فلسفة الطبيعة، ويعين الفعل الذي يتجسد فيه الروح المطلق في الطبيعة. وقد لفت النظر ماركس في مناسبات عديدة إلى أن المقصود هنا بالفعل هي نظرية دينية معلمنة وينتسب المضمون الثاني ذو الدلالة وهو مضمون هيجل وفيورباخ إلى فلسفة التاريخ: أنه ينتج عن تحول الفلسفة الحديثة التي شهدت علم تطور الأجناس، وهو يأخذ شيئاً فشيئاً محل علم اللاهوت، عندئذ يرجع الإنسان نحو العلم الوضعي أو نحو العدم: وهي قطبية جديدة سوف تتيح للفلسفة التالية لهيجل أن تحافظ على مفهوم الاغتراب، غير أن علم الأجناس الفلسفي في منتصف القرن الـ19، قبل هذا الاستقطاب سوف يرد إلى الإنسان حريته؛ وبهذا المعنى سوف يعني الاغتراب على وجه الدقة انخذال قدرة الخلق اللامحدودة من جانب الإنسان المعاصر، لصالح الأجيال الماضية، ذوبان الإنسانية العائشة في الإنسانية الميتة.
أما المضمون الثالث الدلالي مضمون التشيؤ فهو على وجه الدقة التوضيح العلمي لشكل خاص من الاغتراب في نظام إنتاج خاص، فرأس المال يحلل شكلا من ظهور الاغتراب في إطار اجتماعي محدد: تقهقر مذل ومع ذلك ضروري بما أنه يجعل ممكناً فهم ودراسة وتجاوز هذا الشكل وربما جميع الأشكال الأخرى من الاغتراب. إن الشغل البشري يتشيأ في رأس المال التجاري أو الصناعي وهذا الرأس مال يفرض قانونه للمجتمع بأكمله كما يرى هذا بصورة مأساوية في الأزمات الدورية، بل وعلى نحو أعمق فإن العلاقات بين الناس والعواطف نفسها تتشيأ وجميع أوجه المجتمع حتى التعبير الجمالي تتخذ قوام الأشياء الجامدة، إلا أن هذا الشكل من الاغتراب يكون خاصاً تماماً بالمجتمع الرأسمالي الذي يشمل فيه الشكل السلفي جميع المنتجات المادية والفكرية للإنسان، حيث تتغلب قيمة التبادل على قيمة الاستعمال على أن سيرورة التشييء، كذلك ليس التشييء الرأسمالي جوهر الاغتراب بمعنى أنه حيثما ينعدم يختفي، كذلك كل اغتراب أنه في ذلك فحسب شكل محدد تاريخياً.
إن مضمون الدلالة الرابع هو مضمون الأيديولوجية أو الوعي الخاطئ الذي ينتج من السابق بما أنه يفترض انقسام المجتمع إلى طبقات، حيث ينظر إلى رأس المال ويحلل ويدرس كقوة إبداع ذاتية فالقصد العلمي نفسه إذ يجد نفسه ضالاً منذ انطلاقه فإن الهرب إلى خارج الوعي الخاطئ لا يكون ممكناً، إلا بوسيلة النقد الإيديولوجي للتشيؤ؛ ولا يمكن أن تتم هذه التعرية للفعالية الساترة للإنسان إلا بالصعود إلى أس الرأسمالية أي على الشكل السلعي وباستخدام المنطق المؤثر وحده، المنطق الذي يطرح الإنسان من حيث هو كائن تاريخي.
وعليه نستطيع أن نرى كيف يعكس المثقف العربي سلفياً كان أم انتقائيا، حدود المشكلة فهو يلح على شكل من الاغتراب يقل تمرسه فيه في حياته العامة، ويضرب صفحاً عن الأشكال التي ينغمر فيها على الدوام.