ولعل من نافلة القول الإشارة إلى أن الشهادة العلمية، هي وثيقة اختصاص مهني بالدرجة الأولى، تؤهل صاحبها الحاصل عليها حق ممارسة المهنة بشرعية تامة، كالطبيب والصيدلي والمهندس والمحامي، ولكنها لا تجعل منه بالضرورة مثقفا، او عارفا بتفاصيل مفردات الحياة، إذ لا شك أن مثل هذه الأمور تحتاج إضافة إلى التحصيل العلمي، تراكم تجربة غنية، وخبرة زاخرة، واطلاعا وتفاعلا شاملا مع مختلف مجالات الحياة اليومية، في نفس الوقت، لكي يتمكن المتخصص عندئذ من اكتساب ثقافة رصينة، تؤهله خوض غمار الكتابة، والإبداع، والحوار.
وهكذا إذن، فليس كل حامل شهادة هو بالضرورة مثقفا ومبدعا، كما أنه ليس كل دعي للثقافة من غير ذوي التحصيل العلمي، هو بالضرورة مثقف حقيقي.
والملاحظ، أن البعض من مثقفي اليوم غارقون في الانكفاء على الذات، وطامحون في تكوين ثقافة عمودية متمركزة حول الاختصاص العلمي البحت وحسب، مما يجعل ثقافتهم التخصصية، محدودة التداول في إطار النخبة فقط، وهو ما يجعل تأثيرها في عملية التثقيف الجمعي محدودا، ومتواضعا، في الوسط الاجتماعي، في الوقت الذي ينبغي فيه، أن يكون التكوين الثقافي تبسيطيا، ومنفتحا بسلاسة على جمهور المتلقين، وبشكل متواز ومتناغم مع إنتاج ثقافة الاختصاص الأكاديمي الصرف، والتي عادة ما تكون أداة التواصل المعياري المعتاد في الوسط الأكاديمي.
وبالقدر الذي تكون فيه الثقافة العامة أفقية الاتجاه ومتغلغلة في أوساط الجمهور، بكل شرائحهم الاجتماعية، وموسوعية النزعة، وعمومية الانتشار، بالقدر الذي يكون تفاعلها مع جمهور المتلقين لها تنويريا، وإيجابيا.
على أن الثقافة العامة ينبغي أن تكون هادفة، ومدعومة بالمعطيات العلمية، ومتكيفة مع التطورات التقنيات الحديثة، كلما كان ذلك ممكنا، لتتجاوز بدورها، إشكالية الأمية الحضارية والتقنية، التي يعيشها المجتمع، وإلا فإن الإفراط في التعايش مع الثقافة السطحية، والادعاء الفارغ بالتثاقف، أمر يزيد فجوة التخلف المعرفي، ويعمق هوة الأمية التقنية والحضارية بين الجمهور.
ولذلك فإن الأمر يتطلب، أن يكون المثقف اليوم أيا كان نمط تكوين ثقافته، منفتحا ومتفاعلا في تحصيل مدخلات ثقافته، وكذلك في وسائل تواصله مع جمهور المتلقين، ونقل معطيات ثقافته لهم، بحيث يكون التأثير الجمعي المتبادل بالإشعاع إيجابيا، باتجاه النهوض بالثقافة العامة للجمهور، ورفع مستوى التنوير في المجتمع، ونقل الموجود إلى الأفضل، وبالشكل الذي يرسخ ظاهرة الثقافة الاجتماعية الموسوعية، في البيئة الحاضنة لها ليحفز من خلالها، نوازع النهوض العلمي، والحضاري في المجتمع.