«النوخذة» الذي ورث المهنة من أسرته مر بتجارب قاسية في البحر، وخاض مغامرات في الهند وإفريقيا، وبقيت سفينته التي قادها خلال رحلاته وحملت اسم «فتح الخير» شاهدا على تاريخه وتاريخ مرحلة ما قبل النفط في الخليج حيث تتربع حاليا في متحف وطني بالكويت مقابلة للخليج وأمواجه.
و»النوخذة» مصطلح خليجي قديم يُطلق على صاحب سفينة الصيد والتجارة وقبطانها، وغالباً ما يكون النوخذة قبطاناً على مركب طواشة أو اصطياد السمك أو الرحلات البحرية التجارية، وإليه يرجع جميع البحارة لاتخاذ القرارات، وتقع مسؤولية السفينة ومن فيها وما عليها على كاهله.
مميزات النوخذة
عدّد الأمين السابق لمجلس التعاون الخليجي، شقيق نوخذة الخليج، عبدالله بشارة لـ»الوطن» ما تحلى به شقيقه الراحل من ميزات أهلته لأن يحظى بالقيمة التي تمتع بها، وقال «كان شجاعا مغامرا ذكيا، خبر البحر وعرف ممراته وجزره والصخور التي عليه تجنبها، وعرف البنادر والموانئ التي تفيده، وكيف يتعامل مع العواصف، ومع نقص المياه، وكيف يفرض الانضباط الذي هو نظام البحر».
وأشار إلى أنه «كان لتجارة السفن نظام خاص، يتطلب وجود تاجر يمول حمولتها من التمور التي تؤخذ إلى الهند أو عدن، وكانت عائلات معروفة تمتلك البساتين في البصرة وكانت تنقل محصولها على متن السفن الكويتية إلى الهند، كما كان النوخذة نفسه يتولى شراء التمر من البعض ويحمله على السفينة لبيعه في الهند أو عدن، وغالباً ما يتم تسليم التمور للنوخذة بالأمانة، فقد كان النوخذة يتحلى بالنزاهة والاحترام والشجاعة والمعرفة».
ويضيف «كانت آخر رحلة شحن للنوخذة عيسى بسفينة فتح الخير، وحملت 4500 قلة تمر إلى الهند، حيث تولى النوخذة بيعها هناك نيابة عن التاجر الذي يثق به، كما يثق به البحارة، ومالك السفينة».
بداية الإبحار
يكمل السفير عبدالله، سرد فصول من سيرة أخيه، قائلا «تدرب النوخذة عيسى لدى العائلة، وسافر مع والدي، ثم سافر مع سفن أخرى لمدة 3 سنوات قبل أن يتولى قيادة سفينة بنفسه».
ويكمل «أول مرة تولى النوخذة كانت سنة 1937، وكان أقل من 20 عاما، لكنه قاد سفينة كبيرة، وسكن البحر وغامر وعاش عيشة البحارة إلى آخر حياته، فكل تعبيراته ووجدانياته كانت تفوح منها رائحة البحر وعبق أمواجه، حيث عشق رائحة السفن والحبال، وبنى علاقات من الألفة مع بحارته، ويسافر من البصرة إلى الهند، ومن الهند يعبر عباب المحيط إلى إفريقيا، وأحيانا يبحر عبر عدن وأحيانا عبر زنجبار، يحمل من الهند الأخشاب لبناء البيوت ذات النمط الأوربي، وكانت السفن الكويتية التي تتجه إلى إفريقيا لا تتجاوز 20 سفينة، أما الباقي فيتجه إلى الهند، وكان يتركنا في آخر أغسطس من كل عام ويعود في 25 يونيو الذي يليه».
الأم تقود الأسرة
عن حياة أسرة البحار الذي يقضي أغلب عامه في البحر، يقول عبدالله بشارة «كانت عائلة النوخذة تعتمد على الأم أو الزوجة التي تتولى كل شؤون العائلة، وقد عشت أنا وابنه الصغير مع 10 سيدات هن زوجته وبناته الاثنتين ووالدتي وزوجة جدي و5 أخوات، وكانت والدتي تتولى الصرف على العائلة خلال الشهور الـ10 التي يغيبها هو ووالدي، فتوزع حسابات البيت وتضع الميزانية وتدير حياتنا وتشرف على الاحتياجات، فوالدي وأخي كانا يقضيان معنا شهرين فقط في السنة، يشتغلان خلالهما في الإعداد للرحلة المقبلة، وكانت الرحلة من زنجبار إلى بحر العرب تستغرق 16 يوما، حيث كانت إذا دخلت الخليج تتحرك بشكل متعرج لتجنب الرياح، كما كانت الرحلة تستغرق 3 أسابيع من مسقط إلى الكويت، فيتم بيع الخشب بعد الوصول مباشرة».
ويتابع «حين ترسو السفينة على الشاطئ يحاسب النوخذة بحارته، ويستغرق هذا الأمر أسبوعين لتوزيع نصيب كل منهم، حسب نظام مرتبات البحر، فيعطي مالك السفينة نصيبه، والرجل الثاني نصيبه، والنهام الذي يغني نصيبه، وكذلك الطبال والطباخ».
ويكمل «يأخذ النوخذة 4 أسهم من الحساب، والبحارة سهم، والسكوني الذي يتولى التحكم بالسكان سهم ونصف السهم، والمجدمي الذي يعمل ببداية السفينة سهمين».
مغامرات بحرية
لم يكتف النوخذة عيسى بالإبحار عبر الخليج وسواحل بحر العرب، بل ذهب أبعد من ذلك بمراحل، ويقول عبدالله «النواخذة عادة يصلون زنجبار ويجلس ليرتاح، والبحارة التابعون له يدخلون بسفينته داخل الأنهار، ولكن أخي كان بنفسه يأخذ السفينة ويبقى 3 أسابيع لشحنها ويخوض أنهار إفريقيا فعرف من هذه الرحلات المزارعين والعاملين في تقطيع الأخشاب».
مضيفا «كان لدى النوخذة عيسى يقين بأن رحمة الله حرسته في كثير من مغامراته، فقد تعرض لحادث أشبه بالخيال في شتاء 1945 حين كانت سفينته في منتصف الساحل الإيراني، وكانت هناك عواصف فذهب ليساعد البحارة في إنزال الشراع الذي رماه بالبحر في الليل وسحبته الأمواج بعيدا، ونزل البحارة بقوارب صغيرة للبحث عنه في مهمة استغرقت 8 ساعات، ووجدوه ما يزال يسبح بعد أن توجه إليهم حين سمع نداءاتهم، وبمجرد وصوله إلى السفينة أكمل عمله، وحين وصلت السفينة إلى الهند أرسل لنا برقية يطلب أن نوزع الأرز والمأكل لأنه نجى من الحادث».
وأضاف «في رحلة أخرى كان متوجها فيها إلى إفريقيا قادما من الهند، كان عليه أن يحاذي ساحل الهند ثم يخرج مباشرة إلا أن السفينة توقفت على صخر بعد أن غفل المجدمي عن الاتجاه والسفينة مليئة بالبضائع، ولا بد من إيجاد حل كي لا تغرق السفينة فعاش الجميع في حيرة، لكنه طلب منهم الانتظار وبالفعل تحركت السفينة في الليل وواصلت طريقها دون أضرار».
وتابع «في آخر رحلة له في 1957 كان قد وضع ماكينة على سفينته، وظل يتاجر بين الهند والكويت بسرعة، فكان يذهب خلال السنة 4 مرات، وفي تلك الرحلة أوقفه البوليس الهندي وفتش السفينة ووجدوا بعض الأشياء التي اعتبروها ممنوعات فصادروا السفينة وسجنوه سنة وخرج بجواز مزور إلى قطر، ومنها عاد إلى الكويت، ولم يبحر بعدها، لكنه مر بحادث في بركة سباحة أثناء خضوعه لعلاج طبيعي حيث علقت رجله بحبال في البركة وكاد يغرق قبل أن تنتبه له المسؤولة عن العلاج الطبيعي وتفك الحبال، وخرج فكان يروي لنا كيف كاد يموت في بركة سباحة وهو الذي نجا من أهوال البحار»، مشيرا إلى أن أصعب ما أثر فيه كان وفاة ابنه الدكتور أحمد في ريعان شبابه بعد أن ذهب للمستشفى مصابا بالإنفلونزا، لكنه دخل في غيبوبة لـ3 أيام وتوفي بعدها، ما أثر على النوخذة عيسى الذي فقد حيويته بعد الحادثة وأصيب بجلطة أثرت على صحته فبقي حتى آخر أيامه يجلس صامتا متأملا امتداد البحر أمامه.