تركيا التي تميل للصدام مع أوروبا اليوم، كانت تدعو للحوار والتعايش مع الغرب عندما كان الصدام مطروحا من قبل الحركات الإسلامية، ربما لأن أنقرة عندئذ كانت تسعى لإرضاء أوروبا، وكان من مصلحتها التمسك بالاعتدال، وانضمت تركيا آنذاك إلى الدول العربية والإسلامية التي عارضت مفهوم الصدام مع الغرب، باستثناء إيران وليبيا القذافي وعراق صدام وزعماء حرب قليلين. ورحبت الحركات الإسلامية المتطرفة التي كانت في أوج قوتها بمفهوم الصدام الحضاري، ووظفته لتعبئة الجماهير لصالحها. وواجهت الحركات المتطرفة التي كانت تسعى لإسقاط الأنظمة العربية، معارضة قوية من الحكومات التي تصدت لها وقضت على بعضها؟ وظهرت القاعدة وجبهة النصرة وداعش وشاركت الإخوان المسلمين في الدعوة لمواجهة الغرب.
وطرح بعض نقاد ومعارضي مفهوم صدام الحضارات في أوروبا وأمريكا والدول العربية والإسلامية مفهومي «حوار الحضارات» و«حوار الإسلام والغرب» كبديلين لمفهومي «صدام الحضارات» و«صدام الإسلام مع الغرب»، وتمكن مفهوم «حوار الحضارات» بصفة عامة من احتواء مفهوم «صدام الحضرات» الذي خفت بريقه وتراجع انتشاره بعد الانتقادات التي تعرض لها.
في عام 2004 قدم رئيس الوزراء الإسباني خوسيه زاباتيرو (ساباتيرو) إلى الأمم المتحدة أثناء انعقاد دورتها السنوية في سبتمبر ما عرف بمشروع «تحالف الحضارات» الذي يضاد ويواجه تماما مفهوم صدام الحضارات. ويدعو هذا المشروع إلى ضرورة وأهمية إدراك الناس أنهم ينتمون إلى حضارة كونية إنسانية واحدة، تعلو على انتماءاتهم الحضارية المختلفة.
وأن هذه الحضارة الكونية هي التي تزود الناس جميعاً بأسس تعايشهم المشترك. وهناك فرق بين مفهوم «التحالف الحضاري» ومفهوم «الحوار الحضاري» بالرغم من اشتراكهما معا في رفض مفهوم «الصدام الحضاري». فالتحالف هو أقوى من الحوار كما يرى زاباتيرو عندما يكون الهدف هو تحقيق التعايش ومنع الصدام. فالحوار وحده لا يكفي لتحقيق هذا الهدف لأنه لا يؤدي دائما إلى الاتفاق، وقد ينجم عن الحوار اختلاف وعن الاختلاف صدام. ولكن التحالف يمكنه أن يمنع الصدام ويتجنبه.
عندما قرأت مشروع تحالف الحضارات شعرت بوجود رومانسية حضارية في أعماق صاحبه زاباتيرو نحو الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس.
يقول زاباتيرو إنه استلهم الكثير من أفكار المشروع من الحضارة الأندلسية وبالتحديد من ابن خلدون الذي يصفه «بالعالم الأندلسي العظيم». فهو أندلسي لأن والده هاجر من إشبيلية إلى تونس والمغرب. وذكر بعض المتخصصين بمقدمة ابن خلدون الذين اطلعوا على مشروع «تحالف الحضارات» أن لدى زاباتيرو دون شك معرفة جيدة بمقدمة ابن خلدون لأن النص الذي اقتبسه منها يصب تماما في فكرة مشروعه عن التحالف الحضاري، فلقد تحدث ابن خلدون كما استشهد به زاباتيرو عن حتمية الاختلاف بين الأمم، وأن الوعي بهذا الاختلاف هو بحد ذاته وعي بفن التاريخ والتفاهم بين الأمم.فلقد استخدم زاباتيرو في هذا الاقتباس وبمهارة كبيرة مفهوم «فن التاريخ»الذي ورد في مقدمة ابن خلدون ووظفه ببراعة لبناء أطروحة مشروع «تحالف الحضارات».
حظي مشروع زاباتيرو باهتمام الأمم المتحدة التي قررت تبنيه، وأصبح أمينها العام آنذاك كوفي عنان هو الراعي لمشروع التحالف الحضاري العالمي المقدم من رئيس الوزراء الإسباني. وتم الاتفاق على أن يكون مقدم المشروع وصاحبه زاباتيرو هو الممثل والشريك الأوروبي الغربي فيه، وأن يكون إردوغان هو ممثل وشريك الطرف الإسلامي في المشروع. فلقد ظهر ‘ردوغان في ذلك الوقت بمظهر الزعيم الإسلامي المعتدل الذي يشق طريقه للأعلى ويرفض ويعارض فكرة ومفهوم الصدام مع الغرب. وربما كانت مصلحة إردوغان عندئذ تجعله يحرص على الظهور إسلاميا وعالميا بمظهر الزعيم الإسلامي المعتدل والمستنير.
وإضافة إلى الأمم المتحدة فلقد تم تأييد مشروع «تحالف الحضارات» من قبل جامعة الدول العربية التي دعت زاباتيرو للحضور كضيف شرف في مؤتمرها الذي انعقد بالجزائر عام 2005. وتحدث رئيس الوزراء الإسباني أمام الجامعة ونوه بفضل الحضارة الأندلسية على إسبانيا، فمن خلال «مفكري الأندلس العرب المسلمين وعلى رأسهم ابن رشد» كما ذكر زاباتيرو «تمكنت إسبانيا وأوروبا من معرفة الفكر اليوناني القديم». ومن خلال «شعراء الأندلس» كما أضاف زاباتيرو «تغذى الكثير من شعراء إسبانيا» وحضر زاباتيرو بعد ذلك مؤتمر حوار الأديان الذي انعقد في مدريد عام 2008 برعاية الملك عبدالله بن عبدالعزيز وملك إسبانيا خوان كارلوس، وسعى للاستفادة من المؤتمر لدعم مشروعه. وفي حين تزايد الاهتمام السعودي في تلك الفترة بمشروع «تحالف الحضارات» نقص أو قل الاهتمام التركي به بسبب بداية ظهور بعض المشاكل في العلاقات التركية الأوروبية. وكذلك واجهت المشروع بعض المشاكل في إسبانيا بسبب ظروف الانتخابات الإسبانية وتغير الحكومة.
وقبل عدة أسابيع اتخذ إردوغان قرارا بتحويل آيا صوفيا من متحف إلى مسجد، وأشار البعض إلى تناقض هذا القرار مع موقف إردوغان السابق كشريك في مشروع «تحالف الحضارات»، فلقد كان آيا صوفيا منذ بنائه في منتصف القرن السادس كنيسة للمسيحيين الأرثوذكس بالعالم، وبقي كذلك لمدة زادت على تسعة قرون. ثم استولى العثمانيون عليه وحولوه إلى مسجد بعد هزيمة الدولة البيزنطية في منتصف القرن الخامس عشر، مخالفين بذلك الأخلاق والتعاليم الإسلامية التي تمنع الاستيلاء على الكنائس. وبقي آيا صوفيا مسجداً لمدة قاربت خمسة قرون، ثم حوله أتاتورك إلى متحف عندما فرض العلمانية في تركيا، وبقي متحفا لمدة مئة عام تقريبا، لحين قرر إردوغان مؤخرا تحويله إلى مسجد. ويرى البعض أن قرار إردوغان هو قرار سياسي بامتياز أراد به الرئيس التركي زيادة شعبيته في تركيا وفي العالم الإسلامي.
وعلمت مؤخرا من بعض الزملاء الأكاديميين الإسبان أن البرلمان الإسباني يدرس الآن إمكانية إحياء مشروع «تحالف الحضارات»، وأنه بصدد البحث عن شريك آخر غير إردوغان من الزعماء المسلمين، لأن سياسات إردوغان الحالية المرتبطة بشرق المتوسط، وتسييس وأدلجة الدين الإسلامي وصلته ببعض الحركات الإسلاماوية المتطرفة الإرهابية، وقراره الأخير الخاص بآياصوفيا، تتعارض كلها مع جوهر مشروع تحالف الحضارات الذي يسعى البرلمان الإسباني لبعثه من جديد. إن سياسات إردوغان المشار إليها أعلاه وغيرها هي أقرب حقيقة لصدام الحضارات من تحالفها. وبالرغم من محاولة ظهور أنقرة أحيانا بمظهر الراغب في الحوار مع أوروبا، فإن عدم ثقة أوربا بإردوغان كما أعتقد، ستحول دون قبوله شريكاً مرة أخرى في مشروع «تحالف الحضارات»، إذا تم طرحة والترويج له من جديد في المستقبل القريب.