يُقال في عبارة شائعة: «ناقل الكفر ليس بكافر»، ولعلي أستمد من هذه العبارة طاقة القفز لعبارة أخرى مثيلة وهي: «ناقل السوداوية ليس بسوداوي»، وقد تكون العبارة الآنفة مثار استغراب الكثيرين، لكن لنتيقَّن من واقعيتها علينا التوغُّل في معناها لنُسبر غورها.

تخيّل أن تعثر في أحد الأشخاص الذين يقطنون في بيئة حالكة، مليئة بالألم والظلم ويكتنفها القهر والكبت وتعلوها الإرهاصات والأعباء، لا يجد قوت يومه، ويفترش الأرض ويلتحف السماء وقت نومه، ثم تنهال عليه ببعض الأسئلة التقليدية مثل: كيف الأحوال؟ ما الأوضاع؟ ما هي الأخبار؟ سيكون حينها أمام خيارين، إما أن يجامل ويواري تفاصيل ألمه تحت غطاء ابتسامة صفراء ويستتر خلف إجابات باهتة لا تعبر عن واقعه، أو أن يتجاسر على كل ذلك ويخرج عن صمته وينقل لك الواقع بحذافيره، ويكون حينها عُرضة لوابلٍ من اتهاماتك له بالسوداوية والتذمر والجزَع والسُخط وانعدام الرضا.

والأنكى من ذلك عندما تكتشفُ من خلال سياق حديثكما عدم إلمامه بأخبار العالم وآخر تطورات الانتخابات الأمريكية مثلًا أو تغيّرات أسعار البترول، وأنباء غسيل الأموال التي تورط بها بعض مشاهير السوشيال ميديا، وكأنك تفترض سلفًا أن كل ذلك من صميم اهتمامه وأن لِزامًا عليه معرفته، وإلا سيكون شخصًا جاهلًا بأحداث العالم، أو على الأقل غير حضاري أو متأخر! وكأنّ العالم كله يعلم بمعاناة هذا الإنسان وهو من أدار ظهره لكل مجريات هذا العالم.


جزء رئيس من الإشكال هنا هو أن تسأل سؤالًا وتنظر الإجابة التي تسكن رأسك، لا الإجابة التي تحتبس في صدره، تنتظر الإجابة التي تتوقعها أنت، لا الإجابة التي يريدها هو، تنتظر الإجابة التقليدية المُعتادة، لا الإجابة الواقعية الوقّادة، فتقف تلك الإجابة حائرة بين الواقع والمُتوقع، وتكون في نقطة تقاطعٍ بين الأمل والمُمل.

قد يكون من ضمن الأسباب أيضًا هو أن معظم الناس قد ضاقوا ذرعًا من مشاكلهم ولم يعودوا قادرين على الاستماع للمزيد من مشاكل الغير، لكن هذا ليس مُبررا لوصف أي شخص يُعبّر عن حاله بشفافية بعد سؤاله عنه بأنه ساخط وسوداوي.

الفنان السوري الكبير أيمن زيدان الذي خسر بيته في الحرب السورية الأخيرة وفقد أقرب أبنائه إليه بعد أن أُصِيبَ بمرض السرطان يقول في أحد لقاءاته التلفزيونية: «لا أحد يُقرر أن يكون حزينا، فهذا ليس خيارا، وفي الحياة سأكون أنا ولن أخضع لما يحب أن يراني عليه الناس لأن هذا ليس من حق الآخر، وليراني الناس كما أنا، فإذا كنتُ حزينًا يجب أن أكون حزينًا لأكون حقيقيًا مع ذاتي».

هناك بونٌ عظيم وفرق جوهري بين أن يكون الشخص سوداويًا وبين أن يكون ناقلًا لمعاناته من بيئة سوداوية حاضنة لها، والأصل عندما أسأل أي فردٍ مُنتَم لهذه البيئة عن الحال أن ينقل لي الواقع كما هو إن لم يكن دبلوماسيًا أو مُجاملًا، فلا ينطبق وصف السوداوي على هذا الشخص لمُجرَّد نقله لهذا الواقع المؤلم، لأننا لو نقلنا هذا الشخص بكل حيثياته وتفاصيله إلى بيئة أخرى مُغايرة تمامًا، وطرحنا عليه نفس التساؤلات حتمًا سينقل لنا حال البيئة الحالية التي يقطنها وتتغيّر إجاباته بتغيّر بيئته، ففي النهاية هو مُجرَّد ناقل لما يجري حوله، والإنسان ابن بيئته، يتأثر منها ويؤثّر بها.

ما بين نقل الواقع بتجرّد وبين محاولة تنميقه وتشذيبه، تعيش صراع نفي معاناة حقيقية أو إثبات سعادة زائفة، ما بين خشية أن تُتهم بالسوداوية من الغير وبين خشية أن تُتهم بالتزييف من ذاتك، فتظهر بعض الصور في حياتك إمَّا مُهشَّمة بمطرقة الواقع، أو مُجمّلة بمِبضع المُتوقّع.