الصحراء التي تهتكُ سبل المطلقِ، وتفتحُ الأفقَ للأيامِ، وتغدقكَ بكل تناقضاتها وحرها وبردها القارسِ وريحها الجافةِ وطيورها التي تتوهجُ في زرقةِ السماء اللانهائية رغمُ أحاديتها وسدرها الأخضرِ في وجهِ اليباس والصيف الطويلِ، كلها تعيدكَ إلى مكانكَ في هذا المدى المفتوحِ الذي يجرحُ سجنكَ، يهزُ ثقلَ الجناحِ، ويبعثُ القصيدة النائمةَ فيكَ، يذكركَ بصحراء أحمد مطر الكبرى السجينةِ الضيقةِ التي تحسبُ أنفاسكَ وتقيس كل يومٍ قصر الجناحِ، تتحسسُ روحكَ الراقدةَ، تبتسمُ حينَ يطمئنها سكونكَ وصمتكَ في وجهِ العاصفة، أو بصحراءِ الطوارقِ الذينَ اعتادت وجههم الغبارَ والتيهِ الأبديَ في دروبها المتشابهة المختلفة المقلقة التي تجبرك على أن تقفَ وحيدًا مع أشباحكَ المدفونة، مع أسئلتكَ الوجوديةِ التي تقتلها كل يومٍ لكنها تثورُ من رماده، تنقضُ كالعنقاءَ على وحدتكَ وتنبشُ صمتكَ ووحشتكَ في هذهِ اللانهائية، هذا الكونُ الدائري الذي لا يمنحكَ نجومًا في نهاركَ القاسي أو بصحراء إبراهيم الكوني الصوفيةِ، وليل العارفينَ وسكينتهم الأبديةُ، سكون الجبالِ التي تعرف كل شيء ولا يوجعها الجهلُ، سكونُ الجمال وهي تسيرُ في بحرها الرملي، تجرُ حوافرها وهي تهدهد ظهر الأرضِ ، تمشي كمن يدلُ دربهُ، يحفظُ نجوم الفلكَ العظيمِ دون أن يكتشفَ لفظة المتاهةِ، أو صحراء محمد (صلى الله عليه وسلم) ومسافات الهجرةِ الطويلةِ إلى الله، إلى النور أو إلى كل عظيم يعرفه ويؤمنُ بهِ، أي صحراء هذه التي نعيش فيها في هذا الزمنِ؟

وحدها الصحراء تعرفُ ما يسكنها، هذا السرُ القديم الجديد الذي ما زال يفيضُ غموضًا، يفيضُ من تناقضات حزنه وجمالهِ وقسوة شتائهِ وصيفهِ، ووحدها طيورهُ التي تتأرجحُ معلقةً في زرقة سمائهِ تعرفُ كيف تعيشُ بخفةٍ وهي تعانقُ الريحَ والفراغَ المقلقَ المترنحَ متمسكًا بعلوِ السماءِ تارةً أو بصوتِ الهاويةِ الأخير تارة أخرى.