شكلت فترات الحجر المنزلي ومنع التجول التي فرضت في معظم دول العالم تقريباً بسبب تفشي وباء كورونا الجديد (كوفيد-19) فرصة مثالية لإعادة روايات تناولت الأوبئة إلى الضوء والاهتمام، على الرغم من أن كثيراً منها لم تفقد بريقها كروايات صنفت على أنها عالمية، لكن احتياج القراء لمحاولة الحصول على مقاربات بين الوباء الحالي الذي يجتاح العالم بضراوة، وبين أوبئة مماثلة تركت آثارها عليه، ومحاولة استشراف كيف كانت أحوال الناس خلالها، وكيف تمكنوا من تجاوزها، أعادت بريق تلك الروايات، وأعادت قراءتها ومقاربتها ومراجعاتها على ضوء الواقع الجديد لعالم يرضخ تحت وطأة شبح كورونا الثقيل.
لم يكن غريباً على الإطلاق أن ترتفع أرقام مبيعات الروايات التي تتناول الأوبئة أو تتحدث عنها، في كل العالم، وعلى الأخص في إيطاليا نحو ثلاثة أضعاف المعتاد، أو السابق لكورونا.
كما شكلت «الكرنتينا»، وهي تعريب لكلمة «La Quarantaine» الأعجمية التي تعني «المِحجر الصحي»، إطاراً مكانياً بالغ الأهمية أطلق عدداً من الروايات، وترك تأثيره الواضح والجلي على روايات عدد من الأدباء الذين جعلوا منها منطلقا لنتاجهم، وفي مقدمتهم جوستاف فلوبير في تصوراته عن الشرق أو مذكراته كمستشرق استخدم السخرية للوصول إلى هدفه، حيث تناول كرنتينا بيروت التي احتجز فيها في كتابة تلك التصورات، وكذلك جان مارى لوكليزيو في روايته «الكرنتينا»، ومارسيل بروست في عمله «بحثا عن الزّمن المفقود»، وستيفن كنج في روايته «ستاند»، ودين كونتز في روايته «ووهان 44» التي صدرت عام 1981 ودار موضوعها الأساس حول حصار مدينة هوجمت بفيروس.
نداءات للكتابة
في خضم المنع والحجر، أطلقت عدة دعوات للكتابة عن الوباء وتبعاته أو تناوله سردياً، كما أطلقت مسابقات للأعمال التي تجعل منه موضوعاً لها أو خلفية لأحداثها، وهو ما رأى بعض الروائيين فيه استعجالا انطلاقاً من أن الأزمة ما تزال في أوجها، ولم تُتح الفرصة بعد لتأملها والتفكير فيها، كما رأى آخرون أن الأوبئة مثلها مثل الحروب أو الكوارث الإنسانية لا يمكن الإحاطة بها من مختلف جوانبها، رافضين تصنيف الأعمال التي تتناول الأوبئة تحت خانة ما يسمى «أدب الأوبئة» أو «أدب الجوائح» أو «الآداب في الجوائح»، مؤكدين أن الأدب هو الأدب، وأن ثيمته تبقى إنسانية بغض النظر عن موضوعه.
الطاعون
تصدرت رواية «الطاعون» لألبير كامو الفائز بجائزة نوبل للآداب عام 1957 اهتمامات القراء، وكأنهم أعادوا اكتشافها من جديد في زمن كورونا (كوفيدـ- 19) على الرغم من أنها صدرت لأول مرة في عام 1947، أي منذ نحو 70 عاماً، وقد بادرت دار «بنجوين» البريطانية إلى إعادة طباعتها نظراً للإقبال الشديد عليها، وهي تعد إحدى الكلاسيكيات الإنسانية، حيث تدور أحداثها في مدينة وهران الجزائرية، ورسمت مشاهد بالغة السواد لانتشار وباء الطاعون بين سكان المدينة التي خضعت لحجر صحي عام منع الدخول إليها أو الخروج منها. ولعل خلود «الطاعون» ينبع أدبياً من قدرة مؤلفها على تقديم قراءات مفتوحة ومجازية تتناول كثيراً من القضايا، فالطاعون ليس فقط وباء مرضياً، وإنما قد يكون ثقافة منحطة، وخزعبلات وأفكارا وتحزبات سياسية متوحشة وقد يكون غيرها.
حالة هلع
يشير الروائي السعودي طاهر الزهراني إلى أن «الروايات التي تتحدث عن الأوبئة كثيرة، لكن الذي يحضرني الآن بقوة رواية «إيبولا» لأمير تاج السر، وهي رواية تتحدث عن عامل النسيج الذي ينتظره الفيروس اللعين في الكونغو بعد أن نهش الموت عنق حبيبته، فينتشر الوباء الغريب في المكان.. ينتشر بشكل محموم في البشر.. في الرواية يتجلى كل شيء، الموت والحياة، الصحة والمرض، السواد المستطير والبياض الضئيل المنهك، ضحك المبتلى المرسوم على وجوه البائسين، ثم تحضر الفلسفة متدثرة ببراعة، إدراج للرؤى والقناعات من الخارج إلى داخل النص دون ارتباك، الكوميديا السوداء تجعلك تبتسم وتضحك لكن دون إخلال أو نشاز». ويرى الزهراني أن الأدب حالة إنسانية، ويقول «لأن الأوبئة تحضر في كل زمان ومكان وتلعب دورا مفصليا في تركيب البشرية، وفق سنن كونية حاضرة تظهر وتغيب، فإن الأدب حالة إنسانية، في النهاية فإن المشاعر الإنسانية تجاه الموت بهذا الشكل البانورامي في حياة البشر تكاد تكون واحدة، حالة الهلع الإنساني واحدة في كل العصور، لهذا يكرس الأدب هذه الحالة بطريقة وبتناول لا يبهت، خاصة في حال إذا أجاد الكاتب التناول».
ويميل الزهراني إلى التأني في الكتابة عند تناول وباء مثل كورونا ما تزال له آثاره وتفاعلاته وأشكاله إذا كان الوباء هو المحرك الأساس للحدث الروائي، ويقول «في ظني أن الوباء قد يكون هو محرك الحدث الأساس، وفي هذه الحالة من الضروري التأني في الكتابة، أما إذا كان الوباء مجرد ثيمة، فقد يجيد الكاتب تناوله بحيث إن اهتمامه قد ينصب عن حدث ما، ويبقى الوباء مجرد ثيمة لا تتدخل في صلب العمل، بحيث قد يكتب أحدهم رواية حب في بداية الوباء وتنتهي أثناء الوباء، لأنه ليس بالضرورة أن يكون للوباء وقت محدد، أو قد يكون الوباء مجرد أثر حدث ضمن أحداث، لهذا أرى من الممكن توظيف الوباء في أي ظرف، ويبقى التناول هو الذي يقرر نجاح الكاتب من عدمه». وعن أهمية المكان بالنسبة للعمل الروائي الذي يتناول الوباء، يقول الزهراني «أتصور أن حضوره لا يشكل عاملا حيويا أمام الوباء الذي سيكون شغل العالم أجمع، أشعر أن الأوبئة إن كان لها جمالية ما فهي شعور الناس تجاه العالم الذي يعيشون فيه، وكيف أن بقعة ما في أقصى الشرق أو الغرب قد يكون بها شقاء العالم، أو ربما سعادته، إن هذا الشعور الكوني تجاه الإنسان في أي مكان هو شعور إنساني نبيل، في النهاية قد يكتب الكاتب عن بقعة ما في العالم ويتشارك معه إنسان آخر في نفس الهم والحس والمصير».
معارضة للمصطلح
يعارض الروائي السوداني عماد البليك من حيث المبدأ إطلاق تعبير «أدب الأوبئة» على الأعمال الروائية التي تتناول الأوبئة أو تتحدث عنها، ويرى أن الأدب هو الأدب، ويقول «شخصيا لا أميل لتعبير أدب الأوبئة، فالأدب هو الأدب، وفي الوقت الذي تكتب فيه الرواية أو القصة أو النص المعين، نكون قد تجاوزنا هذه المفاهيم أو التقسيمات الضيقة، كما أن ثيمة الأدب أساسا إنسانية إذا تعلق الأمر بالوباء أو الجراح أو الألم البشري عامة». كما أنه لا يرى أن هناك أعمالاً روائية تؤرخ للأوبئة، ويضيف «لا أعتقد أن ثمة روايات بالوصف الكبير تؤرخ لأوبئة يمكن أن تأتي على ذكرها، وفي قضية التاريخ بشكل أساسي لا أعتقد أن هناك أعمالا ذات وضعية محورية في هذا الجانب، الأوبئة مثلها مثل الحروب، أو الكوارث الطبيعية وغيرها من المصائب والمعتركات التي يمر بها الإنسان في الكوكب، لا يمكن احتواء قصتها الكاملة أو تأريخها».
ومع ذلك، فإنه يشير إلى أعمال إبداعية تطرقت للأوبئة بشكل مباشر أو غير مباشر، ويقول «هناك أعمال تطرقت للأمر، مثل «الطاعون» لألبير كامو أو «الحب في زمن الكوليرا» لجابرييل جارسيا ماركيز، أو «العمى» لجوزيه ساراماجو، كما أن النصوص المقدسة أيضا أتت على ذلك، ففي القرآن الكريم ذكر للقمل والجراد والضفادع وغيرها من مسببات الأوبئة، لكن بشكل عام أعتقد أن الوباء لا يمكن أن يشكل قصة وحده إلا من خلال سردية ما وراءه أو الحكايات المحيطة به، إلا في نموذج رائع مثل رواية «العمى» التي هي رواية افتراضية أو تخييلية لما لم يحدث، بعكس روايات تأخذ من الأبعاد الواقعية المباشرة أو الحادثة». وحول الدعوات التي أطلقت لكتابة أعمال روائية أو سردية تتناول وباء كورونا الذي يتفشى حالياً في العالم، يقول «بالنسبة للتعاطي مع وباء كورونا أدبيا، ثمة رأيان في هذا الإطار، الأول يرى إمكانية ذلك، والثاني يرى العكس، وكلاهما صحيح، والمسألة تتوقف على الكاتب ورؤيته وتجربته، وما الذي يسعى لأن يقوله لنا.. نحن في الواقع لا نؤرخ من خلال السرد، بل نحكي ذواتنا والانطباعات والمعاني التي نعيشها، وبالنسبة لكورونا فالطرق عدة، من اليوميات إلى الآثار المترتبة على الكوكب عامة أو على حيز معين منه، إلى تجارب بشرية لحالها إلخ.. لكن الأكيد أن احتواء التصورات قطعا ليس سهلاً».
الرواية ابنة الواقع
مع ترداد الروائيين والقراء لروايات تناولت الأوبئة، بدا أن معظمهما روايات غير عربية، وهو ما يفسره الروائي ومترجم الأدب، العراقي عمار الثويني، بقوله «قليلة هي الأعمال الروائية العربية التي تناولت الأوبئة، فالرواية ابنة الواقع، والمنطقة العربية لم تشهد خلال العقود الماضية أوبئة، كما أن عمر الرواية العربية قصير مقارنة بالرواية الأوروبية، وبالتالي فإنها لا تحيط بكل المواضيع». وحول ما إن كان يربط عوالم الرواية بجغرافية مكانها، من خلال تركيزه على أن خلو المنطقة العربية من الأوبئة في العقود الماضية على حد تعبيره أثر وانعكس في حالة من العزوف للرواية العربية عن التعاطي مع موضوع الأوبئة، يقول «ليس الأمر هكذا، فالمكان ليس ضروريا لتناول موضوع ما، وشخصيا أفضل الأعمال التي تكون فيها الأماكن من صنع خيال الكاتب مع كونها مستوحاة من رحم الواقع، لكني قصدت أن غياب الأوبئة عن المنطقة جعل من تناولها أمراً نادراً في الرواية العربية».
ويميل الثويني إلى ترجيح تفضيل عدم كتابة رواية تتناول كورونا في الوقت الحالي، لأن كثيراً من المسائل المتعلقة بهذا الوباء لم تحسم بعد، ويقول «لا أميل لكتابة رواية عن كورونا في هذا الوقت بالذات، وإن كنت قد أتناول كورونا سرديا ضمن مجموعة قصصية، فالرواية عمل متكامل يحتاج إلى فترة ليختمر، وإلى تأمل للموضوع من عدة جوانب». ويبرر الثويني شهرة روايتي «الطاعون» و»الحب في زمن الكوليرا» في العالم العربي، والإجماع على أنهما من أفضل الأعمال التي تناولت الأوبئة، قائلا «هما الأكثر شهرة لشهرة مؤلفيهما في العالم العربي كونهما من المتوجين بجوائز نوبل للآداب».
تشويش الأزمة
يخالف الناقد المصري، المقيم في لندن مصطفى عيد من ذهب إلى إمكانية كتابة رواية عن وباء كورونا في الوقت الحالي، وقال «أعتقد أن الكتابة وقت الأزمة فيها تشويش لعدم اكتمال التجربة، فمثلا لا نقيّم الثورات والأوبئة والحروب إلا بعد اكتمال الموجة، فالثورات في مصر مثلاً أخذت موجات كثيرة بعضها انتصار واعتزاز لكل من شارك ووعي جمعي فخور بالثوار، وبعضها فيه التفاف وطعن وحبس وتحميل وقت الثورة كل النكبات الاقتصادية والأمنية، وربما تأتي موجة ثانية للانتصار والتصحيح، فأي وجهة نظر كراوٍ ستضمنها روايتك؟». ويضيف «من المؤكد أن تناول أي أزمة كبيرة مثل وباء أو ثورة أو حرب خلال حدوثها، وقبل نضج واكتمال التجربة سيكون قاصر النظر، غير مكتمل الزوايا». لكن عيد لا يغلق الباب أمام الروائي الراغب في تناول كورونا كموضوع لعمله، ويقول «الكاتب المحترف يستطيع أن يرصد كورونا، لكن شرط عدم التورط في فرضيات يلغيها اكتمال التجربة»، مدللا على أن رواية مثل «العمى» لساراماجو حققت النجاح لرمزيتها، وعدم تناول حدث واقعي، حيث اتكأت على فرضية وباء لتعالج أمورا اجتماعية وسيكولوجية في الطبيعة البشرية». ولا يرى عيد بأساً من تحديد الفضاء المكاني للعمل الروائي الذي يتناول الوباء، لكنه يشترط لذلك، ويقول «التحديد المكاني ممكن طبعاً، شرط ألا نغفل عالمية الوباء، وبالتالي عالمية الأماكن، وهنا تلعب احترافية الروائي دوراً مؤثراً للغاية».
الاستعجال لا يخلف النضوج
يذهب الروائي والناقد المصري مختار أمين إلى أنه من الاستعجال الشديد أن يتم تناول وباء حديث مثل كورونا بعمل روائي، ويقول «أعتقد أن تناول كورونا في الاتجاه الأدبي أمر فيه استعجال، لأن دور الأديب يأتي متأخراً بعد جمع شمل كل جوانب الكارثة، وذلك كي يكون أمينا وصادقا فيما يكتبه». ويرى مختار أن هذا مجرد رأي شخصي خاص به، دون أن يطلب تعميمه، ويضيف «التأريخ للأحداث الجسام التي تمر على البشرية بشكل جمعي، وفي وقت واحد، تحتاج إلى التأني للم شمل أطراف الكارثة أو الحادثة من كل جوانبها، حتى يكون ما يكتب عنها حتى لو كان أدبياً نتيجة استقراء علمي حقيقي مبني على الواقع، مدعم بالإحصاءات الصحيحة من عدد الوفيات، وعدد من أصيب، وطرق البحث الطبي والمساعي التي بذلك لحل هذه الأزمة، والوقوف على آخر ما شكلته الجائحة على واقع الإنسان». ويرى مختار أن الأعمال الخالدة التي تناولت الأوبئة ألمت بجوانب هذه الأوبئة فجاءت ناضجة، وحتى تلك المتخيلة منها كانت قد تشكلت نتيجة رؤية شاملة درست الأمر من مختلف جوانبه، مستشهداً بروايات مهمة كان موضوعها الوباء أو الأمراض المعدية ما تزال تحتفظ بحضورها وتعد من الأعمال الخالدة والمهمة، مثل رواية «الطاعون» لألبير كامو، و»الحب في زمن الكوليرا» لجابرييل جارسيا ماركيز، و»العمى» لجوزيه ساراماجو.