الحقيقة لها أوجه كثيرة، بحسب قدرتنا على الارتقاء إلى مستواها، فشعوب لا تتجاوز إمكانيات الطفل الشعورية والعقلية في ضرورة وجود حكاية أسطورية تتوارى خلفها حقيقة العدم، وشعوب تعيش مراهقتها، عبر محاولتها للارتقاء إلى مستوى الحقيقة بكثير من الألم والجدل العقلي والنفسي، ما بين أساطير الطفولة وما بين ضرورات الرشد العقلي التي تفرضها التجربة والواقع.
الحقيقة الاجتماعية جدلية ما بين حق الفرد وحق الجماعة، الحقيقة التاريخية جدلية ما بين وقائع الماضي التي صنعت الحاضر، وحاضر يحاول تأويل الماضي ليسع الجميع، فللبطولة مع تقادم الزمن ألف أب وأم وصاحب، أما الهزيمة فيتيمة دائماً، وهنا يتجلى (مكر التاريخ) وحقيقته في حكاية جبران خليل جبران: (منذ قرون سبعة انطلقت سبع حمامات بيض من واد سحيق تحلق نحو قمة الجبل وقد كساها الثلج الناصع، وقال رجل من الرجال السبعة الذين شاهدوها وهي تطير، إني أرى بقعة سوداء على جناح الحمامة السابعة، واليوم في ذلك الوادي يروي الناس خبر حمامات سبع سود قد طارت إلى قمة الجبل المكسوة بالثلج) ولهذا نواصل مع جبران عندما يفسر فيقول: (إذا عنَّ لرجل أن يكذب كذبة لا تسيء إليك ولا إلى غيرك فلم لا تناجي نفسك قائلاً: إن بيت الحقائق عنده أصغر من أن يتسع لخياله، فكان عليه أن يتركه إلى فضاء أوسع)، ولهذا فالحقائق الصغيرة يضيق بها البعض فيسلكوا معها أحد طريقين، إما طريق الصعود العمودي، وذلك مشوار مرهق في المعراج (الصادق) للأعلى وصولاً للحقائق الكبرى، ولا يستطيعه إلا الصقر عقلاً وفكراً وروحاً، ولا يفعله إلا النادرون (الفردانيون)، فالصقور فردانية في طبعها وحياتها، لا تعيش كقطيع أو جماعة، ولهذا لا تتصارع الصقور فيما بينها، لها جناح يصعد فوق السحاب ودونها قمم الجبال، ولها عيون ترى من بعيد المدى رأس الحية في جحرها، والطريق الثاني التمدد الأفقي، وذلك طريق سهل بين الدواجن، فالديك تضيق نفسه من أخيه الديك، يشاركه الوقوف على غصن صغير في شجرة واحدة، يصبحان على عراك لا ينتهي، من منهما له الغصن الأعلى في الشجرة، وفي المساء يقرران أنهما إخوة وأن شجرتهما واحدة وأنها تسع الجميع، فلا فرق بين غصن وغصن ولا بين ديك وديك، أقصى ضرب الديك في الأرض حدود المزرعة، وأقصى ضرب الصقر في الأرض هجرات موسمية من قارة إلى قارة.
أما الحقيقة فكل العقلاء يعرفون أن الكذب قد سرق ملابسها منذ زمن وتركها عارية تختبئ عن أعين الناس، وأصبح الكذب يمشي بين الناس مرتدياً ملابسها، واثقاً من أنها عاجزة عن الخروج فالكل سيصرخ بها (لا أحد يريدك عارية أيتها الحقيقة، فإما أن تستعيدي ملابسك، وإما أن تبقي سجينة)، وكيف تستعيد ملابسها دون مساعدة، ولهذا جاء أنصار الحقيقة أمثال ديكارت جاعلاً الحقيقة تنطلق من (وجوده الفكري)، وفرانسيس بيكون عندما حاول استعادة ملابس الحقيقة بتعرية الكذب في الأوهام الأربعة (أوهام القبيلة، أوهام الكهف، أوهام المسرح، أوهام السوق)، ومن استطاع نزعها عن نفسه وعقله فسيمتلك القدرة الحكيمة، والأهلية الكاملة في (الارتقاء لمستوى الحقيقة) إنه ارتقاء يتجاوز الشعارات والثرثرة بالمعلومات، ليصل إلى مستوى (الإنسان الكوزموبوليتي) في رحلة تبدأ بتحرير النفس من وهم الثنائيات، فلا أبيض ولا أسود لا بدو ولا حضر، وصولاً إلى حقيقة أنه لا ليل ولا نهار لمن ارتقى في فضاء المعرفة، بل نجم يسمى الشمس بين نجوم تملأ الكون يتوهم الإنسان أنه سبب وجودها أجمعين. شكراً كوبرنيكوس وداروين، شكراً ماركس ونيتشه وفرويد، فقد عجز الكثير من البشر عن معراجكم العقلي، ورأوا فيه احتقاراً للإنسان بكل الأوجه الدينية والاجتماعية والنفسية لأنهم عجزوا عن الارتقاء إلى مستوى الحقيقة وقرروا المكوث في مرحلة الطفل مع موت والده في أول المقال، بينما مقاربة الموت وفق علم الرياضيات ليس إلا ناتج قسمة واحد على صفر، مهما راوغه الشعراء بالمجاز، وحاول مقاومته جلجامش بكتابة الملاحم وبناء الصروح، ولهذا يحذر العقلاء من العاجز عن (الارتقاء إلى مستوى الحقيقة)، لأن (العاجز مشروع قاتل أحمق إن كان بلا ذكاء) (قاتل فرج فودة)، أو (مشروع متآمر على الأذى إن كان ذكياً) (عبدالصبور شاهين مع نصر أبوزيد)، والتاريخ مليء بحكايا القتل والمؤامرة على يد العاجزين عن الارتقاء إلى مستوى الحقيقة، منذ مقتل (هيباتيا) وسحلها في الشوارع حتى عصرنا هذا، ويبقى الرهان على (الطبع الأصيل) في شغف لا ينتهي باتجاه المعرفة بين كتب وأسفُر، تكسر مألوف الفهم بالقراءة ومألوف الطبع بالسفر، ومن عجز عن تجاوز فهمه وطبعه القديم فحياته أساطير ولو قرأ ألف كتاب مسطور، وطبع ألف منشور، وسافر لبلدان الأرض، فلكل شعب مسرحية/ملحمة ولكل مسرحية نص، ولهذا كان (شعار التنوير) كخلاصة لمقالة كانط هو (تجرأ على استخدام عقلك) وعائق الجرأة العقلية (الخمول والجبن).