رحل عنا زعيم الثورة الجزائرية أحمد بن بلّة. وفي حياته ناصبه الكثير من الأنظمة الدينية المتشددة العداء، واعتبروه اشتراكياً شيوعياً كافراً، ونبذوه، وألّبوا إعلامهم عليه، وبالتالي على الثورة الجزائرية، سيما وأن اليسار العربي في ذلك الوقت بزعامة عبد الناصر، كان يحتضنها، ويدعمها، ويمدها بالسلاح، والسند السياسي. ولكن حقيقة بن بلّة لم تكن كذلك، فقد كان زعيماً مسلماً منفتحاً، ومتسامحاً. وهذا الحكم ليس من أفواه مريديه، أو مؤيديه، ولكنه في أفعاله، وأقواله. ففي كتاب (أحمد بن بلّة: حديث شامل معرفي) أعده محمد خليفة، 1985. سأل خليفة بن بلّة:

- هل كنا حقاً نائمين، قبل مدافع نابليون 1798، هل كانت حياتنا راكدة؟

- إن الإسلام لم يعرف الركود، ولم ينحصر جغرافياً، فالإسلام لم يتوقف.

- كيف نصل إلى أسباب النهضة المعاصرة؟

- العنصر الأساسي هو ابن تيمية، وهو بمثابة المنبع، ومنه غرفت النهضة العربية والإسلامية كلها فيما بعد. (ص83).

- كيف نستطيع صياغة إيديولوجية إسلامية تكون للعالم كله؟

- الإسلام غيّر النظام العالمي كله، عندما جاء في وضع أشبه ما يكون بالاستقطاب الدولي الحالي. وجاء الإسلام، وانتصر على القوتين العظميين في ذلك الوقت، فلماذا لا يقدر الإسلام على تغيير العالم مرة أخرى ؟ (ص 132).

- هل هناك إمكانية لاستنباط عَلْمانية من الإسلام؟

- الإسلام ضد السلطة الدينية المباشرة. لم يكن علماء الدين في تاريخ الإسلام هم الذين يديرون شؤون السياسة والحكم. هم المرجع، وليس مصدر السلطة. هذه هي عَلْمانية الإسلام. أما العَلْمانية الأخرى فهي تلطيخ تاريخ بتاريخ. (ص147).

- دستور إيران يقول بشيعية الدولة والتشريع. وهذه طائفية. والإسلام ضد الطائفية؟

- هذه مسألة مؤقتة، وسيتم اجتيازها.

وهناك أسئلة كثيرة وأجوبة عليها، تشهد على أن الزعيم الراحل أحمد بن بلّة كان زعيماً إسلامياً من القدوة.

وفي كتاب (أحمد بن بلّة: دراسة نقدية لأفكاره وطروحاته) لأحمد حمود الصادر عن مركز النهضة للدراسات والتوثيق في باريس عام 1988، يشرح الكاتب لنا بالتفصيل الفكر السياسي الإسلامي للزعيم الراحل. فهو يقول إن بن بلّة في كتابه (نحو عالم جديد، 1984) قال:

"إن الإسلام قادر على مواجهة النظام العالمي القائم على فكرة الربح الخبيثة (الاستغلال) وعلى إيجاد النظام البديل الذي لا يحتوي على الاستغلال. وإن الإسلام وحده هو القادر على تعبئة الجماهير لتستعيد قدرتها على التحكم في مصيرها وصنع تاريخها بنفسها." (ص 63). ويقول بن بلّة: "إن العالم الإسلامي يتمتع بقدرات هائلة. والإسلام لا يرى أن الله خلق الإنسان ليمتحنه، بل خلقه كائناً عاقلاً قادراً على التمييز بين الخير والشر، والحق والباطل، ليكون حراً". والجواب على كيفية مشهد "أزمة الواقع الإسلامي"، يقول بن بلّة:

"إن الإسلام دين جوهره التوحيد، لكن المسلمين بعيدون عن هذا الجوهر، الذي هو العدالة، والتقدم. والإسلام يقدم الاجتهاد أسلوباً لمواجهة، ومواكبة تبدلات وتطورات الظروف، لكن البعض، حوّل هذا الأسلوب إلى إنكار حق الآخرين في الاجتهاد". وفي عام 1981، أصدر أحمد بن بلّة مذكراته التي أملاها على الصحفي الفرنسي روبير ميرل، وترجمها إلى العربية المفكر التونسي العفيف الأخضر، ونشرتها "دار الآداب" في بيروت.

وفي هذه المذكرات نقرأ، كم كان بن بلّة مُعجباً بالشيخ الإسلامي الجزائري عبد الحميد بن باديس. وكم كان يُجلُّ ويحترم هذا الشيخ الكبير الذي كان رئيس "هيئة علماء المسلمين الجزائريين"، التي أسسها. وكان هدفه محاربة الشعوذة، ومحاربة الطبقة التي ارتبطت بالاستعمار الفرنسي. وكان الشيخ باديس قد كتب نشيداً إسلامياً جزائرياً ما زال يتردد حتى الآن في الجزائر:

شعب الجزائر مسلم

وإلى العروبة ينتسب

من قال حاد عن أصله

أو قال مات فقد كذب

أو رام إدماجاً له

رام المحال من الطلب

وفي هذه المذكرات نقرأ، كيف استطاع بن بلّة حل الحزب الشيوعي الجزائري عام 1962، رغم علاقته الوثيقة بالدول الاشتراكية، وزعمائها، وخاصة كاسترو، وتيتو. ولكن بن بلّة أقدم على هذه الخطوة، لإيمانه العميق بضرورة المحافظة على إسلام الجزائر. وهو في ذلك يبرهن على أنه كان الحاكم المسلم، الذي رفض تقديم الخمر في نيويورك في حفل الاستقبال، الذي أقامته السفارة الجزائرية، احتفالاً بقبول الجزائر عضواً رسمياً في الأمم المتحدة. وقال: دعوا الضيوف يشربون البرتقال فقط! (ص146).

والدارس لفكر بن بلّة السياسي، سوف يجد في مذكراته هذه، مادة ثرية لتكوينه، ولنضاله، ولفكره السياسي. ولعل ترجمة العفيف الأخضر ولغته السهلة، وتمكنه من اللغتين العربية والفرنسية، قد ساعدت على متعة قراءة هذه المذكرات، متعة كبيرة.

رحم الله أحمد بن بلّة. فقد كان زعيماً إسلامياً فذاً، وقدوة عربية ثورية نادرة.