وقد جدَّت في حياتنا أحداث كبار باعدت بيننا وبين أسباب هذا البحث. وها نحن أولاء بعد عام من الزمن نحاول أن نصل ما انقطع...
ـ الفن الواقعي: من الواضح أن الكلام على المذاهب الفنية في عصر الجاحظ يختلف عنه في عصرنا، فإنه لم تكن قد وجدت أيام أبي عثمان في تاريخ الأدب العربي بالذات أصول هذه المذاهب الفنية التي نتحدث عنها اليوم، حين نتحدث عن تاريخ الآداب العالمية في عصور النهضات بأوروبا، وهي – في الغالب – أصول اجتماعية ولدتها تحولات تاريخية معينة، ثم انعكست في آداب الأمم التي أصابتها تلك التحولات الكبرى، إذ أحدثت في نفوس الأدباء ردود فعل خطيرة كان من شأنها أن تخلق تلك المذاهب الفنية التي ولد بعضها من بعض في مجرى التطور الاجتماعي والفكري في العصور المتأخرة.
وإذا كان لا بد أن نحدد مذهب الجاحظ في الفن الأدبي، وفقا لاصطلاحاتنا الحديثة كي نكون أقرب إلى فهم أدبه وفنه ومنهجه، فإن أيسر ما يمكن أن نصفه به هو القول بأنه يضرب بسبب إلى الواقعية بمفهومها الحديث، أو بأبسط ما يعنيه هذا المفهوم.
ولقد يقال إن الواقعية إذا أخذنا أبسط أشكالها وجذورها، كانت السمة الغالبة للنثر العربي بجملته في عصر الجاحظ، فليس من الدقة، إذن، أن نجعلها خصيصة مميزة لأدبه في ذلك الزمان.
هذا صحيح إلى حد ما. ولكن واقعية عصر الجاحظ يمكننا – بتسامح - أن نتبين فيها أنماطا مختلفة، وإن كنا نرى معظم هذه الأنماط لا يجاوز حدود الأشكال التعبيرية، دون أن يكون بينها اختلاف كبير في المضامين والموضوعات المحدودة التي يعالجها أدب ذلك العصر.
ومن هنا يختلف أدب الجاحظ. فهو قد يكون نمطا وحده، من حيث هو يصلح أن يعد «جذرا» أصيلا لواقعيتنا الحديثة. لأنه يشتمل - بوجه غامض خفي - على عنصر النظرة التاريخية الاجتماعية، التي تستخلص الفكرة الصالحة لانعكاسات تلك الحركة في حياة الناس، ولكن ذلك النظر كان أقرب إلى العفوية منه إلى وعي القوانين المسيرة لحركة التاريخ. وليس هذا نقصا في إدراك الجاحظ بل هو من طبيعة زمنه الذي لم يكن مؤهلاً – بعد – لإدراك ذلك.
ومهما يكن الأمر، فقد يصح القول إن الجاحظ كان ينظر في حدود طاقته الزمنية، إلى حياة الناس في مجتمعه، نظرة أعمق مما كان ينظر إليها غيره من الأدباء العرب المعاصرين له.
لقد كان يملك رصيدا ضخما من دقة الملاحظة، حتى للتفاصيل الجزئية في حركات الناس فرادى ومجتمعين، تؤازرها طاقة نادرة على التتبع والاستقصاء إلى أبعد مدى، حتى يستخلص من تلك الحركات قواعد سلوكية واجتماعية يبني عليها أحكامه وآراءه في كل فئة من الناس، مصوغة في قوالب فنية بارعة لا تعوزها حرارة الحياة ولا حساسية اللون والحركة.
وبذلك نرى أحكام الجاحظ وآراءه، قلما تتخذ صفة المطلقات والمجردات، بل ميزتها التشخص والتجسد في نماذج بشرية ذات حدود وأبعاد، ثم ذات حيوية تخرجها من نطاق الحدود والأبعاد ومن إطار الركود والجمود، إلى فسحة النمو والتطور والانطلاق. إن شخصيات الجاحظ في «البخلاء» تظهر دائماً في إطار الفئة التي تنتمي إليها، ولا تنحصر في إطارها الفردي المتميز الجامد. فأنت حين تقرأ «رسالة سهل بن هارون»، مثلا ترى صورة سهل نفسه بخصيصته البارزة البخل، مجسدة حية، ولكنك لا تقف منها عند شخصية هذا الرجل كفرد، بل لا بد أن تنقلك هذه الصورة إلى فئة ذوي اليسار والجاه التي ينتمي إليها الرجل، أي لا بد أن تلمح من خلال شخصيته ناساً كثيرين على غرارها ممن ينتسبون إلى جماعة البخلاء، الذين جمعوا بين البخل واليسر وبين خصب البلاد وعيش أهل الجدب، كما يقول الجاحظ نفسه.
ورسالة سهل بن هارون هذه، ليست رواية يرويها الجاحظ عن سهل وإنما هي من وضعه وفنه، يدل على ذلك أسلوبه الجاحظي، وسخره، واستقصاؤه، هذا أولا.
كما يدل على ذلك أن الرسالة بذاتها أقرب إلى التشهير بسهل، والاستهزاء به وبالفئة الاجتماعية التي هو منها، وبفئات أخرى من الناس يقاربونها في المنزلة والشأن الاجتماعي. وليس من طبيعة الأمور أن يسخر مثل سهل بن هارون من نفسه أو من أشباهه.