الثقة شعور متجذر في نفوس البشر عقلائهم وبلهائهم، والفرق بين ما يثق به العاقل والأبله أن ذلك الأخير يثق بكل أحد يبصر وجهه ويسمع كلامه ويغدو ويروح معه، أما العاقل الذي اعترك مع الناس والناس اعتركوا معه فهو خلاف ذلك لا يثق إلا بمن هو محل للثقة.
قد يقول القائل من هو محل للثقة؟ أقول: الناس فيهم بر وفاجر والنفوس البشرية فيها فجور وتقوى، ومن كثر فجوره وطغى الشر على الخير الذي فيه فهذا ليس موضوع حديثنا، لأنه ليس محلا للثقة، إلا أن بلهاء الناس لا يزالون واثقين بهذا الصنف من الخلق، والعجيب أن هذه الثقة تتولد من أول لقاء أو من أول حديث أو معاملة أول ضحكات يتبادلونها في أحاديثهم الودية.
أما العقلاء فهم يعلمون أن الناس فيهم الطيب الذي لا يعرف طريق الشر ولو عرف طريقة لذهب إليه دون رجعة، وفيهم الطيب الذي عجز عن الشر لفقره أو لمرض أصابه أو لظرف طارئ ألم به، فلو تعافى لمارس الشر بصور متعددة، ولألبس الشر لبوس الحق وظهر بوجه الفضيلة، بل قد يظهر لك بوجه قد تعرفه أنه وجه سوء ثم يخلعه ويلبس قناعاً آخر لا تعرفه، أو يمضي وقتاً حتى تتعرف على ملامحه وقد أصبحت حينها ضحية من ضحاياه.! وكذلك يعلم العقلاء أن البشر فيهم الطيب الذي يغلبه الشر أحياناً ويغلب هو الشر أحياناً أخرى، بحسب ما يناجيه ضميره ويرفع من همته كي يغلب الشر الذي في داخله، فهذا الأخير إذا كان في الحالة الأولى فاحذره، وإن كان في الحالة الثانية فأمن جانبه، ولكن لا تغفل فقد يعود إلى حاله الأولى فتوبخ نفسك وتقول كيف غفلت عن هذا.
بالتأكيد - عزيزي القارئ - لا سلطان لنا على سد هذه الحاجة فنحن بحاجة إلى أشخاص حولنا نثق بهم (ولكن) ثق بالطيب الذي يعرف طريق الشر ولا يذهب إليه، حتى وإن كان هناك دعاة على كل طريق منها، وثق بالطيب الذي مرض وتعافى ولم تتغير سجاياه وافتقر واغتنى ويعاملك على أحسن ما يمكن، وكأنه الذهب حينما يصهر يخرج منه الخبث وتتجدد مزاياه على أفضل ما يمكن، هذا هو معدن النبلاء، ويؤكد لنا ذلك نبي الله يوسف حينما كان في السجن قيل له «إنا نراك من المحسنين» وحينما ولي خزائن مصر وأصبح ذا سلطة ومنصب لم يتغير وقيل له أيضاً «إنا نراك من المحسنين» في مثل هؤلاء الرجال يكون موطن الثقة والاعتماد والناس معادن فيهم الثمين والرخيص، ولكن لتكن عندك معايير ربما أشرنا إلى شيء منها تميز لك الثمين من الرخيص.