قلت ذات مرة "إن صوغ المجتمع الروائي من خلال الأحداث المبثوثة في خلايا الناس ومسامات الحياة، يجعل لهذا الفن قدرة سحرية أخاذة، حين يمتزج بالأفق الإنساني، ويتماهى مع فوضى المنعطفات التي تفيض بها دروب الواقع، فهو يعمد إلى استثارة المخيلة وانبثاق الاحتدامات الحوارية والتوقد الذهني" وهذا ما أشعل سلطة الحدث في رواية "الباب الطارف" لعبير العلي، وشكل مناخها الضاغط على المتن الروائي.
تتمظهر براعة المخيال السردي في الرواية في المقاطع الوصفية ونمو الأحداث وتحولات الشخوص، الذين تعصف الحياة بمصائرهم فتتعمق جراحاتهم النازفة وتنزع مباهجهم المشروعة، وتسحق تطلعات الذات في دواخلهم، ولكن العلي أفلتت بفضائها الروائي من الوقوع فريسة لمكابدات شخوصها المستلبة، وتشظيات الوجع الأنثوي، ليتخلق محمولها اللفظي بالتمرد على الأنا المكبلة وامتلاك القدرة على التنديد والاحتجاج ضد التأريخ القهري للأنثى "المرأة مع تقدمها بالعمر لا تطيق احتمال بقاء الكلام داخلها كثيراً" "أنظر لأطراف أصابعي، ألا يملك الناس أيدي مثلها؟ لماذا يعتبرونها عيباً يوارى؟" لقد حددت "الباب الطارف" وسائل الانعتاق والبحث عن الخلاص، رغم قسوة المناخ الواقعي للرواية، فهي تنتقل برشاقة سردية لتحتفل بعتبة المكان المكتنزة بالحس الجمالي "تنام أبها بين ذراعي بردٍ وريح، وتفتح صدرها للحياة وتمضي، لا تعبأ بالرياح التي هتكت أستار هدوءها ليلاً، ولا تلقي بالاً لما شحب من ملامح أحيائها".
العلي تمرر لعبتها السردية من خلال تداخل الملامح والمشاهد واستبطان أغلفة تلك الوجوه، وما تضمره تلك الكائنات من مطامح وانكسارات في مسعاها الإنساني، فذاكرة عبير ذاكرة مثقلة بجمر الواقع ودلالات الارتطامات العنيفة التي كادت أن تهلك "حنين" وتغرقها في العتمة والليل النفسي الحالك. لم تغترف العلي غواية وجناية اللعب على الجسد والغرائز وربطه بالحرية والتمرد على سطوة الذكورة، وتوظيف كيمياء الجسد الفاتن، وتسخين الصفحات بحرارة العلاقات الحسية، وهتك المستور كما تعودنا في كثير من الروايات، بل أمسكت بتلابيب شخوصها المثخنة بالتضاد الحاد، لتحركهم بلغة حية ومتنامية ليبحث كل منهم عن ملاذه المتمرئي وتوقه الراهن، تحت وطأة تفاصيل الأحداث و"الأنوات" المتحركة داخلها، لتضعنا أخيراً في مواجهة تراجيديا الحدث الختامي والعاصف والصاخب وباذخ الدلالة بموت "سعد" في جبل "دخان" ولكنه لم يمت فهناك روح "بدأت أول ركلاتها في أحشائي اليوم لتخلد سعداً آخر".
عبير العلي روائية استحواذية جاذبة ومباغتة، ذات مخزون مروي فائض ومغاير، وقيمة سردية واعية ومدركة، سوف تأخذ مكانها ضمن سلالة الروائيين الأكثر اقتداراً وخصوبة على الغوص في عوالم الشخوص والاحتكام إلى المكان كبطل فاعل في الرواية، فانتظروها في باب آخر.