يخوض الشاعر المصري منذر مصري تجربة جديدة، لا تنتمي إلى الأنطولوجيا من حيث إن خياراته للقصائد تقتصر على أصدقائه الشعراء، ليس بالمعنى الشخصي وحده، بل لأنه يمتلك دواوينهم، كما تفترق عن الأنطولوجيا من حيث جوهر التجربة، كون منذر مصري أدخل تعديلات على القصائد، حذفاً وإضافة وإعادة صياغة. ومن هنا يأتي الإرباك الذي أراده الشاعر للمتلقي أولاً، وقبل أولئك الشركاء، فهؤلاء السبعون شاعراً، من أحياء وأموات، قد تعجبهم التجربة بناء على العلاقة الشخصية بينهم وصديقهم، وقد لا تعجبهم، لكنهم يسامحون صديقهم.

أما القارئ، عامة، فقد يرى في التجربة اعتداء على نص منجز ومنشور، ومنها ما يعود إلى أكثر من أربعين عاماً، على اعتبار أن صاحب الحق في التغيير هو الشاعر نفسه فقط، إذا أراد ذلك.

المهم هنا، كما نرى، أن منذر مصري قال ما أراد كثير من القراء، وربما النقاد، قوله، لكنهم لم يجدوا السبيل إلى ذلك، وفي ذلك جرأة بيِّنة. ولعله استرشد في هذه الفكرة اللماحة، ولكنها غير الجديدة كلياً، بأحاديث خاصة مع وسطه من الأصدقاء، ثم إن هنالك تجربة للشاعر السوري محمد عضيمة في كتابه "ديوان الشعر العربي"، حيث تدخَّل في بعض النصوص، ووضع لها عناوين تتفق مع ذائقته، فأثار زوبعة من النقد ضد هذا التدخل.

لكن منذر مصري اختار فقط شركاءه من الشعراء الأصدقاء، وتدخل من خلال ذائقته باقتراحات بدت جميلة في معظمها، بغض النظر عن أصل النص، الذي قد يكون أجمل لو توافرت لبعضنا فرصة المقارنة بين الأصل والقصيدة المنحولة حيث وُضع تحت العنوان اسم الشاعر، مبدع القصيدة أو النص، متبوعاً باسم منذر مصري، ومن هنا يكون اسم منذر مصري هو الأكثر وروداً في الكتاب.

لا يغيب ربما عن ذهن منذر أن القصيدة بناء كامل، فيه فسحة للتأمل، يتشارك فيها الشاعر مع القارئ، ولهاث الصور وكثافتها قد تضر بالقصيدة، لكن مصري كثَّف الصور، وحذف الاسترخاء اللغوي، أو لحظة الشهيق التي يأخذها الشاعر بين كل صورتين. وقد يكون ما يُنقذ مصري من هذه الملاحظة أن الشعر الذي اختاره لشركائه هو في حالة استرخاء في الأصل، من حيث شح الصور بالمعنى التقليدي للاصطلاح، وبذلك يكون قد أعطى جرعة توتر للقصيدة باتجاه أن تكون أكثر امتلاء بالصور، فهل يكون مصري هنا قد ارتدَّ عن مفهومه للشعر التقليدي من حيث هو كائن ضعيف يعيش في غرفة معقمة، ويجب أن يصطدم الشعر الجديد بجدران الحياة من خارج تلك الغرفة؟

يقسّم منذر مصري شركاءه إلى فئات، ليس كما تقسم الغرف التجارية أعضاءها إلى درجات حسب قوة العضو الاقتصادية، فشركاء مصري درجات، وفق قوة العلاقة الشخصية، أو الأدبية، فلا أحد يمتلك سبعين صديقاً دفعة واحدة، سوى على فيسبوك، مصري يضع أصدقاءه في طبقات، هي: جرح على الجبين يندمل. لا شيء يمنع القطط من المواء. إلصاق نتف ممزقة. سلالة الغزاة. الكردُ إخوتي بالرضاعة. استيفاء لشروط الحديقة. زوار يحملون حقائب كبيرة. ولدتَ في القامشلي وستموت في أمستردام. الشاعر مخطوفاً على شريط أسود (2004 ـ 2008). من لا يظهر في الصورة (13/3/2002). ماذا جئت تأخذ (15/5/2001). وهذه العناوين غير الدالة في معظمها، إلا مع قراءة المقدمة المرفقة بها في كل باب، تثير أكثر من سؤال، أهمها ما تثيره العناوين: "لا شيء يمنع القطط من المواء"، و"إلصاق نتف من ممزقة"، و"سلالة الغزاة"، التي تحيل إلى نوع من التقييم السلبي لتجارب أولئك الشعراء، ونوع من النظرة الاستعلائية تجاه قصائد هؤلاء "الأصدقاء"، على حين يحتفي مصري بأسماء أخرى بناء على موقف عاطفي واضح تماماً، فيقدم كلماتهم بمزاجه الخاص، ويستثني إنتاجهم الآخر، أيضاً بمزاجه الخاص، ومن هؤلاء الشاعر نوري الجراح، الذي يخصص له فصلاً كاملاً بعنوان "الشاعر مخطوفاً على شريط أسود (2004 ـ 2008)".

يستطيع أي قارئ للكتاب أن يقول كثيراً في هذه التجربة، سلباً وإيجاباً، إلا ان المحصلة قد تفضي إلى أهمية هذه التجربة من وجهة نقدية، فمنذر مصري ينتقد قصائد زملائه بشكل عملي ويقترح عليهم أن تكون قصائدهم مكتوبة بالشكل الذي قدمه، من باب حبه لشعر هؤلاء الشركاء، وإهماله لعشرات ومئات الأسماء من مجايليه الشركاء، الذين لم يرد لهم ذكر في الكتاب.

يبقى أن انتخاب مقاطع من خيارات مصري يضعنا في محظور "الانتقائية"، خاصة أن أصل تلك النصوص بعيد المنال في أكثر الحالات، لكن لا بأس للتمثيل والتوشية من انتقاء نص يدل على ما يفضله مصري كي تكون القصيدة أقرب إلى الكمال:

منار شعبوق ـ منذر مصري "سأعضُّ بجفني عيني/ شفتك السفلى، لأنه يروقُني أن تضحكَ لأي سبب، بالقدر الذي يروقُك أن أبكي/ لأي سبب".