الشريعة هي الحاكمة في بلدنا ولله الحمد، ولكون الشريعة لم تُقنن في نظام واضح، فإنه كثيرا ما تختلط الفتوى بالنظام، وكثير مِن القضاة مَن يقضي بناء على فتوى عالم يثق به ـ وليس اجتهادا خاصا به ـ وعندما لا يكون هناك نظام مكتوب يصبح الأمر متروكا للاجتهاد والرأي الشخصي، وهذا ما يضطر القضاة للجوء إلى الفتاوى بدل الأنظمة، ويصبح الحال أن يكون الناس محكومين بالآراء الشخصية التي تختلف بين قاضٍ وآخر! فنحن لا يوجد لدينا قوانين في كثير من الجوانب بحجة أن التقنين يخالف الشريعة في نظر البعض، مما يؤدي إلى أن يكون الناس محكومين بالاجتهادات الشخصية التي تخطئ وتصيب! فيريد البعض أن يكون بلدٌ بأكمله محكوماً بآراء أشخاص، بزعم أنهم يحكمون بما أمرهم الله.
هذا الوضع لا يكون في القضايا التي نصت عليها الشريعة صراحة كتحريم الخمر أو الخنزير مثلا، حيث لا اجتهاد هنا، وقد أصبح النص الشرعي قانونا واضحا، إنما المقصود في القضايا الفرعية والتي يكثر فيها الخلاف الفقهي، وهي غالب ما يحتاج إليه الناس في بيعهم وشرائهم وحياتهم اليومية.
رأي الأشخاص يختلف من شخص إلى آخر، ولا يعبر بالضرورة عن الشريعة، فقد يكون رأيا خاطئا أو مرجوحا، ولا يمكن لأحد أن يجزم بأن رأيه هو إرادة الله! إلا إذا كان في المسائل التي دلّ النصُّ عليها بدليل قطعيِّ الدلالة والنقل، وقد يؤدي هذا الأمر إلى الفوضى، حيث لا يعرف الناس نظاما، ولا يمكن حتى التنبؤ عن حقيقة النظام أو ماذا سيقضي به القاضي في كثير من المسائل.
أعود وأؤكد أن رأي الأشخاص ليس شريعة، ولا يجوز لأحد أن ينسب لرأيه الشريعة، والفتوى ـ في كثير من الأحيان ـ هي تعبير عن رأيٍ شخصيٍّ؛ غالبا ما يصدر عن عالمٍ في الشريعة، ولكنها في النهاية تعبير عن رأيه الشخصي في المسألة، وليست هي الشريعة بالضرورة، بل إن من مقاصد الشريعة حفظ الأموال والمصالح، وهذا لا يتحقق مع حالة الضبابية وعدم الوضوح التي يدعي البعض أنها الشريعة! فعندما منعوا التقنين للشريعة؛ لجأ الناس إلى آراء الأشخاص بدلا من أن تُسنّ أنظمة بعناية وبشكل متطور وحضاري يتواكب مع حاجات العصر التي تستوجب حتى تحديث الأنظمة بشكل دوري طبقا للحاجة والمستجدات.
وفي حال التقنين؛ فإن الحال سيكون قطعا بالاجتهاد والبحث عما أمر الله، ولكن بدلا من أن يكون الاجتهاد من شخص أو بضعة أشخاص غير متخصصين، سيكون من مجموعة أشخاص متخصصين في الشريعة والقانون بالإضافة إلى المختصين في الموضوع الذي يوضع النظام لأجله.
إن أيَّ اقتصاد متقدم وتنافسي يستدعي ضرورةً وضوحَ النظام، الأمر الذي لا يتحقق والحالة هذه! وكثيرا ما أُصابُ بالإحراج والخيبة في مفاوضات العلاقات التجارية في عملي كمحامٍ، حيث تُصر الأطراف الدولية على وضع النظام الحاكم في العلاقة التجارية نظاما دوليا آخر! ودائما ما يقولون أعطنا نظامك حتى نوافق على تحكيمه! وهذا بلا شك يتسبب في تفويت مصالح لا تُحصى. والسبب في هذا اللبس هو الفهم الخاطئ لمعنى تقنين الشريعة، والتقليد في الفتوى بشكل يتصادم مع مقاصد الشريعة الكلية.
ولكي تكون الفكرة واضحة؛ فأحب أن أوضح أمرا باختصار، وهو الفرق بين الفتوى والنظام ـ في بلد يحكم بالشريعة خصوصا ـ فالنظام أو القانون يجب أن تراعى فيه أشياء كثيرة من أهمها المصالح والمفاسد بنظرة الدولة المطلعة على خفايا الأمور وليس بنظرة الأشخاص! وهذا لا يتحقق في الفتوى، فهي مجرد رأي لشخص أو أشخاص، ولكنها غالبا ما لا تنظر بنظر واضعِ النظام! مما يفوّت الكثير من المصالح.
كما أن النظام يصدر بشكل اختصاصي ويمرّ بمراحل متعددة بعد استشارة جميع الجهات المرتبطة بالموضوع، ويجب أن يصدر بآلية تضمن الحياد والموضوعية، وهذا لا يتحقق مع الفتوى، فهي غير منظمة (ولا يمكن تنظيمها)، ولا تصدر عن مختصين بالنظام بشكل يؤهلها لتحل محل النظام. بالإضافة إلى أن صدور النظام يُراعي اتّساق جميع الأنظمة الأخرى معه قبل صدوره، وهذا لا يحصل مع الفتوى، مما يخلط الأمور ويسبب الفوضى.
والرأي الشخصي أو الفتوى يزيد فيهما احتمال التأثيرات والعوامل النفسية للمفتي، فمَن كانت طبيعته الشدة ويميل للتشدد تخرج فتاواه متشددة غالبا، وكذا العكس، وهذا قطعا ليس شريعة! بينما يقل هذا التردد في النظام حيث يتم وضعه من خلال عدة مختصين، ويمر بمراحل كثيرة مما يخف فيها التأثير الشخصي.
أريد في الحقيقة أن أسجل إعجابا بالقضاة في بلدنا، حيث إنهم ليسوا مجرد قضاة في الواقع! فكل واحد منهم يمثل دور القاضي كأساس عمله، وهو يقوم بدور المشرِّع ـ واضع النظام ـ في حالات كثيرة وربما هي الأغلب، فهو يقضي بناء على رأيه الشخصي في أغلب القضايا التي لم ينص عليها نظام ـ وإن كانوا يستعينون بالفتاوى كثيرا ـ فيجتهد في فهم القضية وتكييفها والبحث عن رأي الشريعة في المسألة اجتهادا ثم يحكم! وهذا الدور الأخير (البحث عن رأي الشريعة وهي النظام هنا) يحتاج إلى قراءة وبحث واسع، خصوصا مع ازدحام القضايا اليومية التي ترد إليهم، بينما الدور الذي يجب أن يقوم به القاضي في الحقيقة هو تطبيق النظام وليس الاجتهاد في وضعه!
أعرف عددا من القضاة والمحامين المتمكنين في المهنة الذين يطالبون بوضع آلية جديدة لملء الفراغات القانونية بإصدار الأنظمة، أو حتى باعتماد إلزامية السوابق بطريقة معينة ـ وإن كانت ليست الطريقة المثلى ـ أو بتغيير وصف المبادئ التي نص عليها نظام القضاء لتصبح إلزامية بوضوح، والعمل فورا لتكثيف الجهود لإصدار المبادئ بشكل عاجل ومتقن، وأتمنى أن يتحقق هذا عاجلا، وفي طور مشروع الملك عبدالله لتطوير القضاء فإننا ننتظر الكثير من هذا البرنامج الذي نتمنى أن يتحقق عاجلا بإذن الله.