إن اللعب بمفهومه الاصطلاحي كما جاء في تعريفات الجرجاني: "هو الشيء الذي يتلذذ به الإنسان فيلهيه ثم ينقضي"، وفى علم النفس هو "نشاط زائد عن الحاجة"، والزمن كما عرفته القواميس لغويا هو "الوقت قليله وكثيره"، وتطورت تعريفات ودراسات الزمن لدى العلماء حتى وصلت إلى الفمتوثانية كما وصل إليه العالم المصري "زويل".

ولذا جاءت أهمية الزمن- قليله وكثيره في ضوء تجليات العولمة وما ساقته لنا من نظريات- لترفع من قيمته، لتلك العلاقة الوثيقة بينه وبين ديناميكية الحركة حتى ذاب في بوتقته العالم فبدا مسطحا. يقول فريدمان فى كتابه "العالم مسطح": "إن حركة التسطيح سوف تستمر ولن تتوقف حتى يتصل العالم ويتواصل العمل 24 ساعة في اليوم وسبعة أيام في الأسبوع و365 يوما في السنة".

ومن هنا يتضح كيف أن الزمان والمكان ينتفيان في ظل ديمومة مستمرة في العصر الجديد سباقاً إلى المعرفة والفوز بلقب العالم الأول أو الأوحد، بسبب ذلك الاختلاف الذي أشار إليه جاك دريدا، ويتجلى في اختلاف الوقت في عالم أصبح واحداً يحيا يقظاً طيلة الوقت. "تبرز فيها أهمية الفرد الذي يستطيع في العالم المسطح تجاوز كافة أنواع المعوقات والعراقيل والتواصل مع أي شخص أو مكان في العالم"، فالعولمة تعمل على ذلك التغيير الدائب من مفهوم السيطرة، فالإنسان هو الهدف، وبالأخص تلك الكرة الرابضة بين أذنيه. يقول فريدمان: "إذا كان الأوروبيون والأمريكيون هم من قادوا وسيطروا على حركة العولمة في طوريها الأول والثاني، فإن الطور الثالث منفتح للجميع وعلى الجميع من كافة أطياف وألوان قوس قزح"، ولذلك كان لزاماً علينا الاستعداد لتلك الألوان السبعة التي سنحدق فيها كثيرا، ولسنا بصدد البحث عن العولمة وآليتها، بقدر ذلك البحث في مدار أهمية الزمن في عصر العولمة. فإذا ارتكزنا على مفهوم الزمان والمكان في هذين التيارين؛ "الحداثة الحديثة وما بعد الحداثة" و"العولمة"، فإننا نجد أنه لم يكن هناك زمان مختلف عن المكان، فالزمان والمكان يتم تذويبهما في ما بعد الحداثة، إذ يكون المكان البعيد قريبا ويكون الزمان مفتوحا، كما أن ثقافة الغائب باتت حاضرة لدينا، وهي نظرية دريدا "الاختلاف"، فالحاضر غائب والغائب حاضر، إلا أن هذا التذويب في "الزمكان" لم يذوب الشخصية، لما لها من إرث قديم من معتقدات ومن أعراف وتقاليد، بذلك نتجت ثقافة الفردية، فاتسعت الهوة بين الأشكال والأحداث الاجتماعية المحلية الحاضرة وبين الأحداث والصور الاجتماعية الغائبة.. فأصبح الحاضر ينكشف على أحداث وصور اجتماعية غائبة في الزمان والمكان.

بالرغم من أن الغائب أصبح يأتي إلينا حاضرا عبر زمان ومكان ذائبين، هذا التذويب هو جوهر العولمة، حيث يصبح الفرد واحدا بذاته في بوتقة العالم بعد أن كان ينتمي إلى تحالفات وقبائل ومجتمعات محددة، وهذا النوع من الإحساس بالوحدة قد يخلق لدينا نماذج عديدة من الإحساس بالاضطراب النفسي على المدى البعيد، نتيجة لظاهرة الفردية التي أصبحت سمة هذا العصر والتي لم تكن في تكويننا على الإطلاق بالرغم من ذلك التماس الشديد بالعالم، فالثقافة الوطنية تتميز بالتجانس على الأقل عبر الاشتراك في مجموعة الدوال السلوكية والرمزية، وكذلك الاشتراك في لغة واحدة، أما ثقافة العولمة فإنها الثقافة التي تتجاوز هذه الثقافة الوطنية متخطية حدود الدول جاذبة للذوات الفردية.

ونحن لا ندعو إلى الانغلاق على الذات والإرث، وإنما ندعو إلى التماس المعرفي مع الذات والهوية، ثم التماس العالمي بوعي وإدراك للمفاهيم الماورائية الغربية، وبذلك نكون قد عملنا على ملء الفجوة، فيكون الحفاظ على الإرث والتاريخ، لأن ثقافة العولمة تصبح آليات فوق قومية.. وتخلق عالما ثقافيا مستقلا بذاته، هو ثقافة العولمة. لأنها الثقافة المصنوعة والموجهة بعد أن كانت في الماضي القريب ثقافة تلقائية محلية تخدم سلوك الفرد والجماعة، إلا أنها أضحت اليوم ثقافة نازحة لا تخدم إلا النزعات والأفكار العالمية، فهي تلك الثقافة التي تجمع فيها شذرة من هنا وشذرة من هناك..لتكون ثقافة كونية، وهذه الثقافة لا تظهر تلقائيا بقدر ما تتم صناعتها، وبذلك تتجسد الديمومة في اللازمان واللامكان، فالنظرة هنا أصبحت نظرة عالمية أو عولمية، حيث "نحن هنا ونحن هناك ونحن هناك ونحن هنا" هذا هو مبدأ الاختلاف عند درايد، وبالتالي تصبح الثقافة هي ثقافة العولمة كما يقول "أنطونى سميث": "إن ثقافة العولمة هى بناء عقلي أشبه بمفهوم الدولة في صناعتها في عقول المواطنين".

ومن هنا يتلاشى مفهوم الهوية، لأن ثقافة العولمة لا تاريخ لها ولا هوية لها. إنها ثقافة الفضاء الزماني والمكانى ذلك الفضاء العنقودي ذو السلاسل المتفجرة عن عناقيد أخرى في دوائر عالمية مبهمة. إنها ثقافة الجنين مفقود النسب، إذ تلقي بالقديم وتبحث عن جديد عديم النسب والملامح، تاركة وراء ظهرها القديم، ومن هنا يتغير مفهوم الوحدة الاجتماعية لتكون مجموعة من الأفراد يجتمعون في بعض الخصائص واللغة والملامح ويعيشون على أرض واحدة، فأصبح الفرد هو الوحدة الاجتماعية القائمة بذاتها عبر دهاليز الاتصال الكوني، حيث يهيأ الفرد للانخراط في تناثرات فردية، وقد يرزح الناس جميعهم تحت مصدر تحكم واحد وهو الغرض الرئيس من ثقافة الحداثة الجديدة أو العولمة "هيمنة القطب الواحد" مما يجعلهم تحت وطأة ثقافة غريبة ومفروضة "أن يصبح الناس عبيدا لثقافة لا يصنعونها بأنفسهم بل ثقافة مفروضة عليهم يصنعها لهم الآخرون".

فها نحن نلعب، ولكن بكُرة من اللهب.