يقول الفيلسوف الإنجليزي فرانسيس بيكون، الملقب بأبي العلوم وقائد الثورة العلمية في أوروبا، "لا تختلف الطبيعة عن النساء والعبيد ولا بد من تقييدهم في خدمة الرجل". ويقول ديكارت "الإنسان كائن عاقل متميز عن الطبيعة ومتعال عليها".
هكذا كانت، ولا تزال، نظرة الإنسان إلى الطبيعة، وكانت هي، في كل مرة تبدي حلمها وتحتوي ممارساته الخاطئة وسلوكياته العدوانية. وكانت في الماضي، وبما استودعه الله فيها من نظم قادرة على شفاء نفسها من التلوث والتعافي من عللها، فقط عندما كان التلوث في حدود إمكاناتها. لكن ولما اشتد بأس الإنسان، وبعد أن أتقن العلوم والمعارف وطور الآلة بما يتناسب وصراعه مع الطبيعة، وظن أنه قدر عليها بعلمه وتقنياته، نمى عنده حب التسلط وازداد جشعه وعظمت غطرسته.
أنتج الكثير من المخلفات الصلبة والسائلة والغازية، ولوث الهواء والماء والتربة، وشوه الغابات، وغيّر وجه الأرض الجميل الذي منحه الخالق له، فنقب عن الزيت واستخرجه، وحفر المناجم وصهر المعدن وترك وراءه أكواما من المخلفات تتجاوز مقدرة الطبيعة في التعامل معها والتخلص منها. تراكمت المخلفات وتعاظم شأنها حتى أصبحت في يومنا الحاضر مصدر قلق وتهديد، تعكس صورتها الأزمات والكوارث البيئية التي نعيشها واحدة تلو الأخرى.
وبعد كل كارثة تصيب الأرض يتراجع الإنسان قليلا ليتفكر، لا في مشروعية ممارساته وأخلاقية سلوكه، ولكن في قوة منهجيته وقدرة أساليبه وحيله في بلوغ غاياته. ثم لا يلبث أن يعود إلى ظلم الطبيعة ويسعى في استرقاقها، يدفعه جشعه وأنانيته، وتشجعه غطرسته وتعاليه، وإيمانه المطلق بقوة العلوم. ظن أنه ملك مفاتيح العلوم وسبر أسرار الكون وتسيد عليه، واعتقد أن بمقدوره فعل ما يحلو له، وتوهم أن في علمه حلولا يذلل بها كل ما يواجهه من عقبات ويسيطر بها على ما سيجده من صعوبات، وهو في كل ذلك متجاهلا ومتجاوزا حقوق المخلوقات الأخرى التي تشاركه الحياة على كوكب ائتمنه الله سبحانه وتعالى عليه وأودعه الخلافة فيه.
وما يحدث اليوم في خليج المكسيك شاهد لا يقبل التشكيك على وحشية النظم السياسية والاقتصادية التي تدير النظام العالمي. تتنقل شركات النفط العالمية من مكان لآخر، بحرية لا سابقة لها، تتجاوز حدود الدول السياسية، وخصوصيات المجتمعات المحلية، وكأنها في الحديقة الخلفية لمقر الشركة. خرّبت البيئة في كل مكان نقبت فيه عن النفط أو استخرجته. وتاريخ التلوث بالنفط ومركباته طويل لا يمكن سرده،... في إفريقيا وفي الأمريكتين وفي الشرق، في ماليزيا وإندونيسيا، وفي الخليج العربي وبحر قزوين... في كل مكان.
إن الأمثلة على عبث الإنسان بالبيئة وتخريب الطبيعة لا يمكن حصرها، ونحن اليوم شهود على أكثر من أزمة بيئية. وليس ما يجري في جنوب الولايات المتحدة الأمريكية وقبالة سواحل أريزونا في خليج المكيسك، وما نعيشه من أزمة بسبب الاحترار العالمي إلا شواهد على حماقة الإنسان. ومن قبل لوثت فالديز ناقلة الزيت التابعة لشركة إيكسون آلاف الأميال من شواطئ ألاسكا، وأضرت بالحياة المائية على مساحة كبيرة من المحيط. وفي حرب صدام مع إيران وفي حرب الخليج الثانية، تسربت إلى مياه الخليج كميات كبيرة من النفط وخربت النسيج الحيوي في بيئة بحرية هشة لا تقدر على احتواء ذلك القدر من التلوث أو التعافي منه.
وقبل ذلك في غابات الأمازون، إحدى رئتي الكوكب، التي تمده بالأكسجين - في الإكوادور، في منطقة لم ير سكانها، قبل وصول تكسكو، السيارات فضلا عن استخدامها أو امتلاكها. في هذه المناطق العذراء سكبت شركة النفط، خلال إقامتها ضيفا، ملايين الجالونات من الزيت الخام في الجداول والأنهار، وملأت مئات الأحواض الترابية بمخلفات الزيت ولوثت المياه وقتلت الأشجار. وتسببت في ظهور أمراض لم تكن في أسلاف السكان الأصليين الذين اختاروا العزلة عن العالم المعاصر طواعية وبمحض إرادتهم،... أو ربما هربا من ظلم الاستعمار، وبربرية النازحين.
هذه وكثير غيرها من أزمات البيئة لم تغير الموقف القديم من الطبيعة، وإن غلفته الشركات الكبيرة بقشرة من برامج المسؤولية الاجتماعية وبعض الأعمال الخيرية، وكثيرا ما لجأت لمبررات الاقتصاد الوطني والأمن القومي، وسوقته أو فرضته على الساسة الذين روجوا للفكرة، ولبسوا ثياب المدافع عن البيئة في حملاتهم الانتخابية إرضاء لعواطف الناخبين التي يحركها الطرح التراجيدي لقضايا البيئة على الفضائيات.
خذ على سبيل المثال الرئيس الأمريكي أوباما الذي خفف الحظر المضروب منذ عقود على التنقيب عن النفط في المياه الإقليمية، وقد فشل سلفه بوش في رفعه. أوباما الذي شارك في قمة كوبنهاجن وأقر بأن الاعتماد على النفط في إنتاج الطاقة واحد من أهم أسباب ظاهرة الاحترار العالمي، نراه اليوم يوسع دائرة التنقيب المتاحة! وهو الذي ساهم في دعم مشاريع التنقيب عن النفط في المياه الإقليمية في البرازيل!
إن الأمر لم يعد محتملا - ففي خليج المكسيك رفضت الطبيعة العبودية، وضربت بقوة وحزم وردت على المعتدين بعنف. رمت أولا في وجوههم زيتا تفجر من أرض البحر وبطن المحيط، وخربت ثانيا مصادر رزقهم وموارد الغذاء،... وانتقمت لكل العبيد. ولا تزال إلى يومنا هذا تهدر، وتقذف بما يزيد عن 5000 برميل يوميا في مياه المحيط وعلى شواطئه.
سيبقى التلوث ويتجدد ما لم يعد الإنسان إلى رشده ويتعامل مع الطبيعة ككائن يتأذى بوحشية سلوكه، ويتألم من الجراح التي يتركها على جسده في كل مرة يثقب الأرض بحثا عن الثروات.