للأمثال والشواهد والحكم دورها في حياة الشعوب ولها تأثيرها المباشر على السياسات العامة ونظم الحكم وعلائق المجتمعات، وهي تضرم الحرائق وتخمدها كما كان هذا شأنها في الماضي وأحسبها أسهمت في تضليل مجتمعاتنا خلال الحاضر المعاش..

يصفها أبو الفضل الميداني في كتابه مجمع الأمثال بأنها (حكمة العرب في الجاهلية والإسلام فتبلغ بها ما حاولت حاجتها في المنطق بكناية فيجتمع لها بذلك إيجاز اللفظ وإصابة المعنى وحسن التشبيه) وهي عند الأصفهاني (فن يجري على ألسنة الفصحاء ويختلط بخطاب البلغاء ويدخل نوادر الأُدباء وبدائع الشعراء) ويفرق أبو الهلال العسكري بين الحكمة والمثل (كل حكمة سائرة تسمى مثلاً ولكن القول وإن حسن لا يكون مثلاً إلا إذا ذاع وانتشر)

ويجري المثل على ألسنة العرب مجرى الدم في شرايينهم، إذ لم يدعوا موضعاً إلا وضربوا حوله الأمثال ولم يتركوا قضية أو نزاعاً دون استخلاص مقتضب وحكمة مروية تتوارثهما الأجيال على مر الزمن، وهم – كما بينت حقائق التاريخ – لا يقصرون في هذا الميدان وليس منهم إلا ولديه أمثولة تحكى أو مقولة مدوية تردد.

كل جيل يودع هزائمه وانتكاساته في رصيد الآخر.. الرعايا يقولون لأبنائهم كيف يجب عليهم أن يكونوا أمثالهم. والوجهاء يحكون لأطفالهم ما كانوا عليه من إخلاص لولي النعمة الذي اندثر عهده وفاتهم تدبر الواقيات من غوائل الزمن بعده.. وما من طريقة لتسويق الرواية غير المثل المتداول أو الحكمة الذائعة، جل العرب ينحتون الأمثال من تجاعيد المحن وينتجون المزيد منها ولا أحد منهم يستطيع عمل شيء غير ذلك!

تقول أولاهم نفس المغزى الذي ذهبت إليه أُخراهم ولا لبس في الدلالة على الحرص وتوخي العبرة وكرم الإغداق على الأبناء بما يحتاجون إليه من دروس حول أحداث دارت رحاها في حيوات الآباء، بعضهم جلس على كرسي الحكم ووضع على واجهة مكتبه لوحة موشاة بماء الذهب كتب عليها (لو دامت لغيرك ما وصلت إليك) إنها طريقة فذة لتضليل المجتمع وخداعه الإيحائي بما يضمره الحاكم من نزاهة وما تمثله قناعاته من عزوف ذاتي حتى ليبدو في صورة حمل وديع وضعته الأقدار موضع المسؤولية قسراً..

أما في الحقيقة فإنه لم يترك وسيلة من وسائل البقاء في السلطة واغتصابها إلا وتمادى في استخدامها.. زور إرادة الشعب مرة إثر أخرى، واحتال على منافسيه وفرض نفسه بقوة الأمر الواقع، وانتهى به المطاف سفاحاً يواجه أبناء وطنه بالمجنزرات.

تأخذنا المفارقات إلى إمعان النظر في جداريات الحاكم ومطرزاته المزركشة بالأضواء والألوان لنرى على القرب من اللوحة السابقة حكمة مفادها (المسؤولية تكليف لا تشريف)، ومن المؤكد أن شعوباً عديدة سمعت الحاكم مئات المرات يردد هذه المقولة في خطاباته البليغة الموجهة لأغراض التمويه ودغدغة العواطف.

لقد كان علينا أن نتحاشى سوء الظن به واعتبار الشك بمصداقيته رجساً شيطانياً.. كيف لا ما دامت المسؤولية تكليفا لا تشريفا؛ ولهذا فإن القائم على مصالح المجتمع يستدرج الشعب لتعقبه بهتاف (الروح والدم) اللذين يفتديان زهده الجم وورعه (الطوطم)، ولم يكن على البال إثارة الأسئلة عن علاقة التضاد بين ادعاء الزهد من جهة وعشق الأضواء والبهارج من جهة ثانية..

هل أقول إن اللغة العربية استحالت مطية سهلة للنظم التي تحتقر العقل.. هل نقول أيضاً إن الأمثال والحكم والشواهد البلاغية كانت هي الأخرى ضمن ركائز الاستبداد أم أن قابلية المجتمع لخدع حكام يدعون الديموقراطية، هي المسؤولة عن إفراغ اللغة من مضمونها..

في أحايين شتى يذهب بعض المشتغلين في ميدان الحقوق والحريات للاعتقاد بأن القوة وحدها مسؤولة عن حماية الاستبداد وتحصين المستبدين ولذلك تتوقف استخلاصات وبحوث المشاهير من المفكرين المنحازين لقيم العدالة والحرية والمساواة عند آليات القوة التي تسخرها النظم الديكتاتورية لقمع الشعوب ومصادرة إرادتها والتحكم بمصائرها، لكنهم – نادراً – ما وقفوا على ترسانات الوعي الزائف التي يوظفها الطغاة في خدمة محمياتهم الظلامية.إذ يتوسل المستبد بجواهر اللغة والفضيل من المأثورات والمُحكم من الشواهد والأمثال والذائع من مقولات الفلاسفة والمرسل من نتاجات الخيال الشعبي للقيام بما تعجز عنه أدواته القامعة ومستخدماته المادية العابثة..

ولا شك والحال ما سلف أن بعض بلدان أمتنا العربية تعرضت لعملية سطو كبرى استهدفت عقل الإنسان وعطلت قدرته على استثمار المعرفة في الدفاع عن وجوده المعنوي الذي يبدع ذاته ويحسن صياغة تصوراته الثقافية تجاه الحياة ومتغيراتها، وكل ذلك باسم الديموقراطية المزعومة!

إن الحكم والأمثال والمواعظ والشواهد لا يستطيع الاستبداد خطفها من الشعوب إلا متى تخلت المعرفة عن جدلية العلاقة بالقيم النبيلة ما يدعونا لاعتبار ثورات الربيع مجرد محاولة أولية على طريق التغيير المنشود. وهي ما لم يتصدرها مشروع ثقافي عربي حافل وعميق ستظل رهناً لتقلبات السياسة وأزماتها الآنية العابرة، وبذلك فإنها سوف تصبح مجرد إضافة غير مسبوقة تغذي الاستبداد وتمده بالخبرة وتتيح له فرص ابتكار أدوات استثنائية تقاوم رياح التغيير الراهنة أو المحتملة في القادم من ضحوات الربيع..