ها قد أوصدت باب غرفتي وجلست وحدي في ظلال سحابة من دخان السكاير الممزوج بعطر القهوة الحجازية، لكي أصرف ساعة بمحادثتك، أنت الآن في الجانب الآخر من هذه الكرة الكبيرة الصغيرة، وأنا ما رحت هنا، أنت في لبنان الجميل الهادئ، وأنا في بوسطن المفعمة بالحركة والضجيج، أنت في الشرق وأنا في الغرب، ولكن ما أقربك بعيدا بالعين، إن البشر بالعين، إن البشر يا أمين يكرهون بعاد الأحباب والأصحاب، لأن ملذاتهم تأتيهم عن طريق الحواس الخمس، أما جبران فقد نمت روحه حتى صارت تشعر باللذات المرتفعة عن استخدام الحواس، فهي ترى، وتسمع، وتحس، ولكن بغير العين والأذن والأصابع، وهي تذهب على أقاصي الأرض ثم تعود ولكن بغير الأقدام والمركبات والسفن، وهي تتنعم الآن بأمين بكل ما يرفرف حول نفس أمين بعيدا كان أو قريبا مثلما تتنعم بأشياء كثيرة غير منظورة ولا مسموعة. وأجمل ما في حياتنا هو ذاك الذي لا يرى ولا يسمع.
كيف وجدت لبنان؟ هل رأيته جميلا مثلما كان يصوره شوقك وحنينك إليه؟ أم لقيته بقعة جرداء يسكنها الخمول بجوار الكسل؟ هل هو ذاك الجبل الذي تغنت بوصف محاسنه قرائح السعراء من داود إلى سليمان إلى أشعيا، إلى جرمانوس فرحات، إلى لامارتين، إلى نجيب الحداد، أم مجموع تلال وأودية خالية من الأنس بعيدة عن الظرف، مكتنفة بالوحشة؟ أنت سوف تجيب عن هذه السؤالات برسائل طويلة إلى المهاجر «وأنا سوف أقرأ كل كلمة منها، ولكن إذا كان هناك بعض الأشياء التي تريد أن تتكلم عنها أمام العموم أخبرني عنها برسائل خصوصية لكي أكون شريكا لك بأفكارك ومشاهدا بعينيك حقيقة لبنان.
أنا في هذه الأيام مثل صائم يترقب قدوم فجر العيد، لأن سفري على باريز يجعل أحلامي وآمالي حائمة حول الأعمال الكبيرة التي سوف أحاول إتمامها في عاصمة المعارف والفنون، قد أخبرتك يا أمين قبل سفرك بأنني سوف أصرف سنة كاملة في باريز، وأنا أخبرك الآن بأنني سوف أذهب على إيطاليا بعد انقضاء السنة، وأصرف سنة متجولا بين متاحفها العظيمة، وآثارها القديمة، فأزور البندقية وفلورنسا ورومية وجنوى ثم أعود من نابولي إلى أميركا، هي سفرة عظيمة هائلة تستدعي اهتمامك بالعين لأنها ستكون مثل حلقة ذهبية، تربط ماضي جبران المملوء بالكآبة بمستقبله المرفوع فوق أعمدة النجاح. أنت ستمر بباريز طبعا عندما تعود من سورية وفي باريز سنلتقي ونفرح، وفي باريز سنشبع آمال روحينا من الجمال الذي صاغته أيدي المتفننين، وفي باريز سنزور البانتيون، ورنان، وفي باريز سنسير بين أروقة قصر اللوفر ونشاهد رسوم روفائيل ويكيل أنجلو ودافنتشي وبارجينو، وفي باريز سنذهب ليلا على الأوبرا ونسمع الأغاني والتسابيح التي أنزلتها الآلهة على بيتهوفن وفاجنر وموزرات وفردي وروسيني. إن هذه الأسماء التي يصعب على العربي أن يلفظها هي أسماء الرجال الذين بنوا مدينة أوروبا، هي أسماء رجال طوتهم الأرض، ولكنها لم تستطع أن تطوي أعمالهم العظيمة. إن العاصفة يا أمين تستطيع أن تميت الزهور ولكنها لا تقدر أن تبيد البذور، وهذه هي التعزية التي تسكبها السماء في نفوس محبي الأعمال العظيمة، هذه هي الأشعة التي تجعلنا -أبناء المعرفة- أن نسير على طريق الحياة رافعين رؤوسنا بالفخر والغبطة.
سوف أهتم في الصيف بطبع كتابي (الأجنحة المتكسرة) وهو أفضل شيء كتبته لحد الآن، أما الكتاب الذي سيولد في العالم العربي حركة هائلة فهو كتاب فلسفة (الدين والتدين) الذي ابتدأت بتأليفه من أكثر من سنة، والذي ما برح من أفكاري بمنزلة النقطة من الدائرة، وسوف أنجز هذا الكتاب في باريز وربما طبعته على نفقتي الخاصة.
عندما تكون يا أمين في مكان جميل أو بين أدباء أفاضل، أو بجانب خرائب قديمة أو على قمة جبل عالٍ، عندما تكون في أحد هذه الأماكن، الفظ اسمي همسا فتسير نحوك روحي وترفرف حولك وتتمتع معك بالحياة وبكل ما في الحياة من المعاني الخفية، اذكرني يا أمين عندما ترى الشمس جامحة نحو الغروب وقد وشحت الطلول والأودية بنقاب أحمر كأنها تذرف لفراق لبنان الدماء بدلا من الدموع، واذكرني عندما ترى رعاة المواشي جالسين في ظلال الأشجار ينفخون بشباباتهم ويملؤون البرية الهادئة بالأنغام مثلما فعل أبولون عندما نفثته الآلهة على هذا العالم. واذكرني عندما ترى الصبايا الحاملات على أكتافهن آنية الماء. واذكرني عندما ترى القروي اللبناني يفلح الأرض أمام عين الشمس وقد كللت قطرات العرق جبينه، وألوت المتاعب ظهره، واذكرني عندما تسمع الأغاني والأناشيد التي سكبتها الطبيعة في قلوب اللبنانيين، تلك الأغاني المنسوجة من خيوط أشعة القمر، الممزوجة برائحة الوادي المنسوجة مع نسيمات الأرز. واذكرني عندما يدعوك الناس إلى الحفلات الأدبية والاجتماعية، لأن ذكري عندئذ يعيد إلى نفسك رسوم محبتي لك وشوقي إليك، ويجعل لكلامك معاني مزدوجة ولخطاباتك تأثيرات روحية. المحبة والشوق يا أمين هما بداية ونهاية أعمالنا.
والآن وقد كتبت هذه السطور أراني مثل ذلك الطفل الذي رام نقل مياه البحر بصدفة إلى حفرة صغيرة في رمال الشاطئ، ولكن الست ترى يا أمين بين هذه السطور سطورا غير مكتوبة بالحبر؟ هي تلك السطور التي أريدك أن تستفسر خفاياها، لأنها كتبت بأصابع الروح، لأنها كتبت بعصير القلب، لأنها كتبت على وجنة الحب الواقف بين الأرض والكواكب، السابح بين المشارق والمغارب، المتموج أبدا بين نفوسنا ودائرة النور الأعلى.
عرف أمين الغريب جبران يوم كان في الولايات المتحدة يصدر جريدة «المهاجر»، وكان جبران يومذاك رساما يكتفي بإثبات الخطوط والظلال الملونة على الألواح ويحتفظ لنفسه بنتاج خياله الأدبي الخصب. ووثقت عرى الصداقة بين صاحب «المهاجر» وابن بشرى، فاطلع أمين على بعض مقالات صديقه، فأدهشته روعة أسلوبها فراح ينشرها تباعا في جريدته، فكان أول من اكتشف جبران وشجعه على المضي إلى الأمام.
* كاتب ورسام لبناني من أدباء وشعراء المهجر "1883-1931"