مشهد مُثير للدهشة في بيان وصفه وتحليل جذوره، والمساحة التي حصل عليها، والاهتمام البالغ الذي ناله من الإعجاب من كلا طرفي المشاركين والمهتمين، فنحن هنا نحاول تفكيك المشهد ومعرفة ما وراء الحدث، فالنموذج يتكرر في كافة مجالات الحياة، والمواقف تختلف في كل زمان ومكان، والدرجة تتغير وفق نوعية الحدث والمتنازعين عليه.
يقول الدكتور علي الوردي في كتابه مهزلة العقل البشري (إن الإنسان مجبول على التنازع في صميم تكوينه، فإذا قَلَّ التنازع الفعلي في محيطه لجأ إلى اصطناع تنازع وهمي ليروح به عن نفسه، فالتنازع والتعاون متلازمان في الإنسان لا ينفك أحدهما عن الآخر)، فالقليل منا يُدرك أنه يعيش التنازع مع الآخرين ويتفاعل معه، والأغلب يعتقد أنه خارج عن دائرته وصراعه وتوتره، فالطبيعة البشرية تميل إلى التنازع بوصفه حقا لها في الوصول إلى هدفها، أو تأييد رأيها أو في الوقوف إلى دعم حقوقها أو مناصرة قضاياها، أو تشجيع أبطالها وممثليها في مهارات الحياة أو في الانتماء إلى الهوية الثقافية والدينية والاجتماعية والوطنية والسياسية، والتنازع كأي بذرة صغيرة في بداية نشأتها تكون حاجة عفوية وطبيعية، وما إن تكبر وتبدأ تُثمر حتى يتم التنازع عليها، ثم ما يلبث في التطور ويتحول النزاع إلى حالة انقسام وتباعد، وأحيانا يتم استغلاله نحو الشرور والعنصرية والعداوة والبغضاء وتصفية الحسابات، وقد يذهب التطرف فيه إلى حد الاعتداء على النفس والمكتسبات، فقد أعطانا الله شاهدا على ذلك (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) المائدة 26.
إن فلسفة التنازع المذموم تقوم على التخالف والتخاصم والقهر مع الآخر، من أجل الانتصار عليه وتدميره، وهذه الفلسفة تتحكم بها الغرائز والشهوات والمصالح والنعرات الدنيا، وأما التنازع الممدوح فهو تنافس قائم على الاحترام وحق يقوم على الدليل، وفوز بعيد عن الاستعلاء وطاقة تتحكم بها القيم العليا، من أجل السمو والرفعة، فالقرآن الكريم حدد لنا التنازع المنهي عنه (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) الأنفال 46، وترك لنا الحق في التنازع الطبيعي والممدوح في أمور الحياة للوصول إلى التكامل وتحقيق الغايات السامية.
فأي طرح تنازعي يقوم على إذكاء العنصرية والعصبية والفئوية والأنانية والاستغلال والعبودية والقهرية، ويتم دسها في منازعات الأعمال الفنية والطائفية والمذهبية والحزبية والمجتمعية والوطنية والتجارية، بين قضايا الرجل والمرأة والتسامح بين الأديان السماوية واختلاف المذاهب الإسلامية، وسيرة الشخصيات التأريخية، ومجالات الألعاب الرياضية، وعالم الفنون الجميلة والثقافات الإنسانية وحضارات الشعوب، فهو طرح دنيء ومُتخلف ومشبوه، سواء كان بوعي أو بغير وعي، وأن الرهان الكبير الذي يقع على وعي تفكيرنا ومسؤوليتنا، هو ألا نقع فريسة وضحية لمروجي التنازع المذموم والمشجعين عليه، ونقع في مصيدتهم التي ظاهرها التعاون وباطنها السقوط في وحل التنازع، فمسابقة منصور بدأت بالمشاركة بأجمل صورة، وانتهت بقبح التمييز في نفوس المشاركين ضد بعضهم البعض والابتعاد عن أصل الفكرة وجمال الصورة، فهل ستكون مرزوقة وأبو قحط نموذج التنازع والتعاون المذموم؟